التوحد: الأسباب والعلاج

التوحد: أسبابه، أعراضه، طرق العلاج، والحصبة الثلاثي

يعد التوحد واحداً من الاضطرابات العصبية التي تؤثر على التطور الاجتماعي والتواصلي للفرد، ويعتبر من أكثر الحالات الطبية التي أثارت اهتمام العلماء والأطباء في العقود الأخيرة. فبينما يظل سبب التوحد غامضًا إلى حد كبير، فإن التقدم في البحث العلمي قد مكّن من اكتشاف الكثير عن هذا الاضطراب، من حيث الأعراض والعوامل المسببة له، إلى جانب الطرق الممكنة للتشخيص والعلاج. في هذا المقال، سنسلط الضوء على التوحد من خلال دراسة أسبابه المحتملة، الأعراض التي يعاني منها المصابون به، الطرق العلاجية المتاحة، ونظرة على العلاقة المحتملة بين التوحد والحصبة الثلاثي.

1. التوحد: تعريفه وفهمه العلمي

التوحد، والذي يُعرف أيضًا باضطراب طيف التوحد (ASD)، هو اضطراب تطوري يؤثر على كيفية تفاعل الفرد مع الآخرين، ومعالجة المعلومات الحسية، وكيفية تطوير المهارات الاجتماعية واللغوية. يؤثر التوحد على النمو العصبي في الدماغ، ويظهر عادة في مرحلة الطفولة المبكرة، مع ظهور علامات مرضية واضحة قد تتراوح بين عدم القدرة على التواصل مع الآخرين، والتفاعلات الاجتماعية المحدودة، إلى السلوكيات المتكررة وغير العادية.

2. أسباب التوحد

إن سبب التوحد لم يتم تحديده بشكل قاطع، حيث تعد الأسباب غير واضحة تمامًا، ولكن الدراسات الحالية تشير إلى عدة عوامل قد تكون مسوؤلة عن حدوثه، وهي:

أ. العوامل الوراثية:

أحد أبرز الأسباب التي تم الإشارة إليها في الأبحاث هو الوراثة. فقد أظهرت الدراسات أن التوحد يميل إلى الانتقال في العائلات، وأن الأطفال الذين لديهم أقارب مصابين بالتوحد يكونون أكثر عرضة للإصابة. الأبحاث على التوائم قد أظهرت أيضًا أن التوائم المتطابقة يكون احتمال إصابة أحدهم بالتوحد مرتفعًا إذا كان التوأم الآخر مصابًا.

ب. العوامل البيئية:

إلى جانب العوامل الوراثية، يعتقد العلماء أن العوامل البيئية قد تلعب دورًا في زيادة خطر التوحد. مثل التعرض لملوثات أو مواد سامة خلال الحمل، أو إصابة الأم بعدوى معينة قد تؤثر على نمو الجنين بشكل طبيعي. كذلك، قد تتسبب بعض العوامل أثناء الحمل مثل تناول الأدوية أو التوتر الشديد في زيادة احتمالية الإصابة.

ج. العوامل العصبية والدماغية:

تتعلق هذه العوامل بالتغيرات في الدماغ والأنماط غير الطبيعية في الاتصال بين الخلايا العصبية. يشير بعض العلماء إلى أن بعض الأطفال المصابين بالتوحد يعانون من تباين في نمو الدماغ، مثل زيادة أو نقص حجم بعض أجزاء الدماغ مثل الفص الجبهي أو الأجزاء المتعلقة بالتفاعل الاجتماعي.

د. تطور الجنين:

قد يحدث التوحد نتيجة اضطراب في التطور الجيني الذي يؤثر على تطور الدماغ في مراحل مبكرة من الحمل. بعض الدراسات تشير إلى أن التشوهات الجينية قد تؤدي إلى خلل في نمو بعض المناطق الدماغية، مما يساهم في ظهور أعراض التوحد لاحقًا.

هـ. الحصبة الثلاثي:

في الماضي، كانت هناك تقارير تشير إلى وجود علاقة بين التطعيم ضد الحصبة الثلاثي (MMR) والتوحد، ولكن الدراسات الكبيرة التي تم إجراؤها في وقت لاحق دحضت هذه الفكرة. على الرغم من ذلك، بقيت هذه العلاقة موضوعًا مثيرًا للجدل لعدد من السنوات، ومن المهم التأكيد على أنه لا يوجد دليل علمي قاطع يربط بين اللقاح والتوحد.

3. أعراض التوحد

تتفاوت أعراض التوحد بشكل كبير بين الأفراد، وقد تتراوح من معتدلة إلى شديدة. وعمومًا، يمكن تقسيم الأعراض إلى ثلاث مجموعات رئيسية:

أ. صعوبات في التفاعل الاجتماعي:

• عدم التفاعل البصري: يمكن أن يلاحظ في الطفل المصاب بالتوحد عدم إجراء الاتصال البصري الطبيعي أثناء التفاعل مع الآخرين.

• العزلة الاجتماعية: يميل الأطفال المصابون بالتوحد إلى الابتعاد عن الأنشطة الاجتماعية ويفضلون اللعب بمفردهم.

• صعوبة فهم المشاعر: قد يواجه المصابون بالتوحد صعوبة في قراءة تعبيرات الوجه أو لغة الجسد وفهم مشاعر الآخرين.

ب. صعوبات في التواصل اللغوي:

• تأخر في الكلام: يعاني العديد من الأطفال المصابين بالتوحد من تأخر في تطور مهارات اللغة والكلام.

• عدم القدرة على استخدام اللغة بشكل تفاعلي: قد يتحدث الشخص المصاب بالتوحد دون مراعاة لردود الفعل الاجتماعية أو الاستماع للآخرين.

• اللغة المحدودة أو الروتينية: قد يستخدم بعض الأطفال المصابين بالتوحد عبارات أو جمل متكررة أو قوالب لغوية جامدة.

ج. السلوكيات المتكررة:

• الحركات المتكررة: مثل التلويح باليدين أو الاهتزاز أو التكرار اللفظي لبعض الكلمات أو الأصوات.

• الاهتمام المتخصص: قد يظهر الطفل اهتمامًا شديدًا ومحددًا بشيء معين مثل الأرقام أو الآلات.

• التحسس الزائد أو القليل: قد يظهر الطفل حساسية مفرطة للضوء أو الصوت، أو قد يظهر تجاهلًا للمحفزات الحسية.

4. طرق علاج التوحد

لا يوجد علاج شافٍ للتوحد، ولكن يمكن إدارة الأعراض وتحسين جودة الحياة من خلال مجموعة من التدخلات والعلاج المبكر. تعتمد الطرق العلاجية على مدى تطور الحالة واحتياجات الفرد. تشمل العلاجات الرئيسية:

أ. التدخل السلوكي:

• التدريب السلوكي المعرفي: يساعد هذا النوع من العلاج في تطوير مهارات التواصل الاجتماعي، وحل المشكلات، وتحسين السلوكيات غير التكيفية. يتم التركيز على تعديل السلوكيات السلبية وتشجيع السلوكيات الإيجابية.

• التدريب على المهارات الحياتية: يتعلم الأطفال المصابون بالتوحد كيفيات التفاعل الاجتماعي، وتنظيم وقتهم، والاعتناء بأنفسهم.

ب. العلاج الوظيفي:

يساعد العلاج الوظيفي الأطفال على تحسين مهارات الحياة اليومية مثل ارتداء الملابس، والأكل، والمهام المدرسية، ويُستخدم لتعزيز استقلالية الطفل.

ج. العلاج اللغوي:

يستهدف هذا العلاج تحسين مهارات التواصل، سواء كانت لفظية أو غير لفظية. يمكن استخدام تقنيات التواصل باستخدام الصور أو الأجهزة الإلكترونية لتحسين قدرة الشخص على التعبير عن احتياجاته.

د. العلاج الدوائي:

تستخدم الأدوية أحيانًا للتعامل مع الأعراض المصاحبة للتوحد مثل القلق، الاكتئاب، أو السلوكيات المتكررة. ولكن لا يوجد دواء مخصص لعلاج التوحد نفسه. يتم تقييم الأدوية حسب احتياجات المريض.

هـ. التدخل المبكر:

يعتبر التدخل المبكر من أهم العوامل التي تؤثر على تطور الأطفال المصابين بالتوحد. يشمل ذلك التعليم الخاص، والعلاج السلوكي، والعلاج اللغوي في مراحل الطفولة المبكرة لتحقيق تحسن أكبر في النواحي الاجتماعية واللغوية.

5. العلاقة بين التوحد والحصبة الثلاثي

في الماضي، كان يُعتقد أن هناك علاقة بين اللقاح الثلاثي (MMR) والتوحد. تم تداول هذه الفكرة بعد دراسة نشرها أحد الأطباء في عام 1998، والتي خلصت إلى وجود ارتباط بين اللقاح وظهور أعراض التوحد. لكن سرعان ما تم دحض هذه الدراسة من خلال العديد من الأبحاث التي أثبتت أن اللقاح لا يؤدي إلى التوحد.

التطعيم ضد الحصبة الثلاثي يعد من أكثر اللقاحات أمانًا وفعالية في الوقاية من الأمراض التي قد تكون خطيرة على صحة الطفل. توضح الدراسات اللاحقة أن الحصبة الثلاثي ليس لها علاقة بالتوحد، وأن استمرار هذا الاعتقاد كان ناتجًا عن سوء فهم أو تلاعب علمي.

6. الختام

التوحد هو اضطراب معقد يحتاج إلى اهتمام وعلاج متخصص. على الرغم من أن الأسباب لا تزال غير مفهومة بالكامل، فإن التقدم في الأبحاث قد ساعد في تحسين طرق التشخيص والعلاج. من خلال التدخل المبكر والعلاج المناسب، يمكن تحسين نوعية حياة الأفراد المصابين بالتوحد وتمكينهم من التواصل والتفاعل مع الآخرين بشكل أفضل. ومن المهم أن نواصل جهودنا لزيادة الوعي حول هذا الاضطراب، وتقديم الدعم اللازم للأسر والأفراد المصابين به.