استثمر وقتك واعمل ما تحب في ظل أزمة كورونا

مقدمة

منذ بداية جائحة كورونا، تغيرت ملامح الحياة اليومية حول العالم بشكل غير مسبوق، حيث أصبح التباعد الاجتماعي والعمل من المنزل أمرًا شائعًا، وتوقفت العديد من الأنشطة الترفيهية والاجتماعية، ما تسبب في شعور عام بالقلق والإجهاد النفسي لدى الكثيرين. ومع ذلك، مثلت هذه الأزمة فرصة فريدة لإعادة النظر في الأولويات الحياتية والمهنية، واستثمار الوقت في تطوير الذات والقيام بالأنشطة التي طالما حلم بها الأفراد. فتح هذا الظرف الاستثنائي بابًا واسعًا أمام التفكير الإبداعي والتغيير، وأتاح إمكانية تحويل الأزمة إلى فرصة للإنجاز والنمو الشخصي.

الجائحة كعامل محفز لإعادة تقييم الوقت

في الحياة التقليدية التي كانت تسير بوتيرة سريعة قبل الجائحة، لم يكن الوقت متاحًا بسهولة. انشغال الناس بالأعمال، التنقل، والالتزامات الاجتماعية، جعل من الصعب التفرغ لأي نشاط يتجاوز الروتين اليومي. ومع تفشي فيروس كورونا وفرض قيود الحجر الصحي، تغير هذا النمط تمامًا. أصبح لدى الأفراد وقت فراغ غير مسبوق، ومجالًا للتأمل وإعادة تنظيم حياتهم. هذا التحول دفع العديد من الناس لإدراك أهمية الوقت وضرورة استثماره بشكل فعّال.

وفقًا للعديد من الدراسات التي أُجريت خلال فترة الإغلاق، وُجد أن نسبة كبيرة من الناس بدؤوا بالاهتمام بأنشطة جديدة، كتعلم لغات جديدة، الدخول في مجالات العمل الحر، القراءة، ممارسة الرياضة المنزلية، أو حتى إعادة التواصل مع الذات عبر التأمل وممارسة اليوغا. هذا التوجه يعكس تغيرًا في السلوك الجمعي نحو استثمار أكثر وعيًا للوقت.

العمل عن بعد: نقلة نوعية في مفهوم الإنتاجية

من أبرز التغيرات التي فرضتها الجائحة هو الانتقال إلى نمط “العمل عن بُعد”، والذي كان حلًا اضطراريًا ثم أصبح لاحقًا خيارًا دائمًا للعديد من المؤسسات. هذا النمط أتاح مرونة أكبر في تنظيم الوقت، وتقليل ساعات التنقل المهدورة، ما أدى إلى إمكانية تحقيق توازن أكبر بين الحياة الشخصية والمهنية.

لقد ساهم العمل عن بعد في تحفيز الأفراد على اكتشاف قدراتهم الإنتاجية خارج إطار المكاتب التقليدية، وفتح الباب أمامهم لتجربة العمل المستقل “Freelancing”، والذي شهد نموًا هائلًا خلال فترة الجائحة. كثيرون دخلوا عالم البرمجة، التصميم، الترجمة، وكتابة المحتوى الرقمي. وبهذا، لم تعد الجائحة عائقًا بل دافعًا نحو البحث عن الذات المهنية وتطويرها.

تطوير المهارات الذاتية والتعلم الإلكتروني

تزامنًا مع تزايد أوقات الفراغ، أصبح التعلم الذاتي أحد أبرز الوسائل التي اتجه إليها الأفراد في فترة الجائحة. توفر الإنترنت، وانتشار المنصات التعليمية المفتوحة مثل Coursera، Udemy، EdX، FutureLearn، وغيرها، أتاح الوصول إلى دورات تدريبية عالية الجودة من أعرق الجامعات العالمية.

شملت هذه الدورات مجالات متعددة مثل الذكاء الاصطناعي، تطوير الذات، المهارات القيادية، تعلم اللغات، وإدارة الوقت. هذا التوجه لم يكن فقط لمجرد تمضية الوقت، بل كان جزءًا من استثمار حقيقي في الذات والارتقاء بالمهارات لمواكبة سوق العمل المتغير، لا سيما مع تصاعد الطلب على المهارات الرقمية.

الجدير بالذكر أن بعض الأشخاص استغلوا هذه الفترة للحصول على شهادات مهنية معترف بها، ما ساهم في تحسين وضعهم الوظيفي وزاد من فرصهم للحصول على وظائف جديدة بعد انتهاء الأزمة.

الصحة النفسية والروحية: أولوية تم إهمالها قبل الجائحة

الجائحة سلطت الضوء على أهمية الصحة النفسية والروحية، لا سيما في ظل العزلة والقلق الذي صاحبها. وقد لجأ كثيرون إلى البحث عن وسائل للاسترخاء والطمأنينة الداخلية، مثل ممارسة التأمل، اليوغا، والقراءة التأملية.

هذا الوعي المتزايد بالصحة النفسية ساهم في تحول جوهري في أنماط الحياة، حيث بدأ الأفراد في تخصيص وقت لأنفسهم، بعيدًا عن الضغوط اليومية، ما انعكس إيجابيًا على علاقاتهم الأسرية والاجتماعية. كما لجأ البعض إلى الكتابة اليومية Journaling كوسيلة لتفريغ المشاعر وفهم الذات بشكل أعمق.

العودة إلى الهوايات القديمة وتطوير هوايات جديدة

أثناء فترة الإغلاق، عاد كثير من الناس إلى ممارسة هواياتهم القديمة التي كانت مؤجلة بسبب انشغالات الحياة اليومية. الرسم، النحت، الطهي، البستنة، وصناعة الحرف اليدوية، عادت لتشكل جزءًا من الروتين اليومي للكثيرين.

هذه الأنشطة لا تقدم فقط شعورًا بالإنجاز، بل تسهم في تعزيز الإبداع وتحسين الحالة النفسية. وهناك من استثمر موهبته في هذه الهوايات لتحويلها إلى مصدر دخل إضافي، عبر منصات مثل Etsy، Amazon Handmade، وInstagram، الأمر الذي ساعد على دمج الشغف بالحياة العملية.

التحول الرقمي للمشاريع الصغيرة والعمل الحر

فرضت أزمة كورونا واقعًا جديدًا على أصحاب المشاريع الصغيرة، حيث وجدوا أنفسهم مضطرين للانتقال إلى العالم الرقمي. التجارة الإلكترونية أصبحت الخيار الأهم لتسويق وبيع المنتجات، وبرزت منصات مثل Shopify، WooCommerce، وسوق.com كمحاور رئيسية لنمو هذه المشاريع.

التسويق الرقمي، إدارة المحتوى، وتحسين محركات البحث SEO، أصبحت من المهارات الأساسية لأي شخص يسعى لتحويل فكرته إلى مشروع ربحي عبر الإنترنت. الكثير من الأفراد الذين خسروا وظائفهم خلال الجائحة، استطاعوا البدء بمشاريع منزلية صغيرة، كإعداد الطعام، بيع الكتب المستعملة، صناعة الإكسسوارات، أو تقديم خدمات استشارية رقمية.

القراءة كنافذة للهروب من الواقع

أعادت الجائحة للأدب والقراءة مكانتهما التي طالما تقلصت في ظل الحياة السريعة. وجد الناس في الكتب عزاءً وهروبًا مؤقتًا من ضغوط الأخبار اليومية والخوف من المجهول. وقد ارتفعت معدلات شراء الكتب الورقية والإلكترونية، خصوصًا في مجالات التنمية البشرية، الأدب الكلاسيكي، والفلسفة.

كما نشأت مجموعات قراءة افتراضية على وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات مثل Goodreads، مما ساهم في تعزيز الشعور بالانتماء الاجتماعي رغم العزلة، وعاد بالكثير من الفائدة الثقافية والمعرفية.

جدول توضيحي لأهم مجالات استثمار الوقت خلال الجائحة

التأقلم مع التغيرات: خطوة ضرورية نحو المستقبل

ما بعد الجائحة لن يشبه ما قبلها. فالعالم يتجه بسرعة نحو نماذج عمل وتعليم جديدة تعتمد على المرونة، التكنولوجيا، والتعلم المستمر. ومن استثمر وقته خلال الجائحة في تطوير نفسه، سيكون في موقع أفضل للتكيف مع التحديات الجديدة واغتنام الفرص.

الوعي بأهمية الوقت، وتنظيمه بشكل ذكي، لم يعد مجرد رفاهية، بل صار من أساسيات الحياة العصرية. ومع استمرار التغيرات المتسارعة، سيبقى الاستثمار في الذات والعمل بما تحب من أهم الدعائم لمواجهة المستقبل بثقة وإبداع.

المصادر

1. World Economic Forum (2021). The Future of Jobs Report

2. Harvard Business Review (2020). How to Make Working from Home Work for You