التوبة والاستغفار في حياة النبي

شرح حديث (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه): رؤية شاملة لفقه التوبة والاستغفار النبوي

يُعدّ حديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة” من الأحاديث الجليلة التي تسلط الضوء على جوهر العلاقة الروحية بين العبد وربه، وتؤكد على المحورية الكبرى التي يحتلها الاستغفار والتوبة في منهج الإسلام العملي والأخلاقي. هذا الحديث رواه الإمام البخاري في “صحيحه”، ويُعتبر من النصوص المرجعية في موضوع التوبة، حيث يقدّم نموذجاً حيّاً لدوام الإنابة إلى الله حتى من المعصوم من الخطأ، النبي عليه الصلاة والسلام.

في هذا المقال، سيتم تقديم شرح موسّع للحديث من حيث سياقه النبوي، ودلالاته العقائدية والفقهية، ومراميه الأخلاقية، وآثاره النفسية والسلوكية. كما سيتم ربطه بالمفاهيم القرآنية والمواقف النبوية الأخرى، مع تعزيز الفهم عبر أمثلة واقعية من حياة الصحابة والسلف.

النص الكامل للحديث ومصدره

روى الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

“والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة”

(رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب الاستغفار رقم الحديث: 6307)

وفي رواية أخرى عند مسلم:

“يا أيها الناس، توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة”

(رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء، رقم الحديث: 2702)

هاتان الروايتان تكشفان عن منهج يومي ثابت للنبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار والتوبة، يتجاوز فيه العدد إلى النوع والدوام.

التفسير اللغوي لألفاظ الحديث

• “والله”: قسم تأكيدي يعكس صدق الخبر وأهميته في الخطاب النبوي.

• “لأستغفر الله”: من الاستغفار، وهو طلب المغفرة من الله، ويشمل إزالة الذنب وستر أثره.

• “وأتوب إليه”: التوبة هي الرجوع من الذنب مع الندم والعزم على عدم العودة. والجمع بين الاستغفار والتوبة في الحديث يحمل دلالات مركبة سنستعرضها لاحقاً.

• “أكثر من سبعين مرة”: الرقم هنا يفيد الكثرة والمبالغة، ولا يُفهم منه العدد الحرفي فحسب، إذ قد ورد في رواية مسلم “مائة مرة”، مما يدل على أن المقصود هو الإكثار لا الحصر العددي.

لماذا يستغفر النبي وهو المعصوم؟

من المسائل التي أثارت اهتمام العلماء والمفسرين سؤال: كيف يكثر النبي صلى الله عليه وسلم من الاستغفار والتوبة، وهو المعصوم من الذنب؟

أجمع جمهور أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الكبائر، وقد يغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كما ورد في القرآن الكريم:

“لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ”

(سورة الفتح، الآية 2)

وقد جاءت تفسيرات العلماء لتؤكد عدة معانٍ، منها:

1. الاعتراف بالعبودية: استغفار النبي هو تجديد لعهد العبودية لله، وهو دأب الصالحين في كل زمان.

2. تعليم الأمة: كثير من أفعاله صلى الله عليه وسلم تحمل الطابع التربوي التعليمي، فهو النموذج الأمثل لأمته.

3. الخشية من التقصير في حق الله: رغم كمال طاعته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يرى أن عبوديته لا تفي بحق الله سبحانه وتعالى، فيستغفر ويتوب خشية القصور.

4. دوام الذكر والاتصال بالله: الاستغفار وسيلة لإدامة الصلة بالله، وهو من أشرف مقامات العبودية.

العلاقة بين الاستغفار والتوبة

يظهر في الحديث اقتران الاستغفار بالتوبة، ما يلفت النظر إلى التمايز بين المفهومين:

اقتران المصطلحين يُشير إلى أن الاستغفار لفظي وقَلبي، أما التوبة ففعل وسلوك، ويكمل كلٌ منهما الآخر.

البعد الروحي في الحديث

يعكس هذا الحديث منزلة الوعي الدائم بحضور الله في حياة النبي، حيث لم يكن الاستغفار عنده فعلاً يُمارس عند اقتراف الذنب، بل هو سلوك يومي نابع من إدراك عميق لحقيقة العبودية، وتواضع لا مثيل له.

من هنا نستخلص أن الحديث ليس فقط دعوة للتوبة من الذنوب، بل هو مبدأ للحياة الروحية، يُعزز:

• حضور القلب في العلاقة مع الله.

• تجديد النية والإخلاص.

• كسر الغرور والاعتماد على النفس.

أثر الاستغفار في السيرة النبوية

نجد في السيرة مواقف عديدة يُجسد فيها النبي عليه الصلاة والسلام المعنى التطبيقي للاستغفار، مثل:

• إذا فتر عن الذكر قليلاً قال: “إنه ليُغانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة” (رواه مسلم).

• كان يقول في سجوده: “اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، وأوله وآخره، وعلانيته وسره” (رواه مسلم).

هذه النصوص تكشف عن أن الاستغفار النبوي ذو أبعاد شاملة، تشمل الذنوب، والتقصير، وحتى ما لا يُدركه الإنسان من زلاته، ويظهر فيها التواضع الجمّ للنبي صلى الله عليه وسلم.

أثر الحديث في السلوك الفردي

الحديث يقدم للمسلم المعاصر خارطة طريق واضحة نحو:

• المداومة على الاستغفار، كفعل يومي وليس موسمي.

• تجديد العهد مع الله في كل لحظة، لا سيما بعد الغفلة.

• الاعتراف بالتقصير وعدم الغرور بالطاعات.

• إحياء الروح بالخضوع والافتقار إلى الله.

فوائد الاستغفار المتعددة

الاستغفار في الإسلام ليس فقط عملية روحية، بل له أثر اجتماعي ونفسي ومعنوي ومادي. جاء في القرآن:

“فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا”

(سورة نوح، الآيات 10–12)

من هذه الآية تتبين فوائد الاستغفار، ويمكن تلخيصها في الجدول التالي:

الاستغفار في حياة الصحابة والسلف

كان الصحابة والتابعون يدركون قيمة هذا الحديث، فتأسّوا به وجعلوا الاستغفار ديدنهم:

• أبو بكر الصديق: سأل النبي أن يعلمه دعاءً، فقال: “قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً…”.

• ابن عمر: كان يعد لنفسه في المجلس الواحد مائة مرة يقول: “اللهم اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم”.

• الحسن البصري: كان يقول: “أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وفي أسواقكم، فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة”.

الاستغفار والتوازن بين الخوف والرجاء

يؤسس هذا الحديث لفلسفة التوازن بين الخوف من الله والرجاء في رحمته. فالنبي رغم يقينه بمغفرة الله، يستغفره مراراً وتكراراً، وهو بهذا يربّي الأمة على ألا تأمن جانب الذنوب، ولا تيأس من الرحمة.

هذا التوازن هو ما يجعل العبد المسلم يسير في طريق الله بأمان ويقظة، دون تفريط ولا إفراط.

الخاتمة: أثر الحديث في منهج المسلم اليومي

حديث “والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه…” ليس مجرد بيان نظري، بل دعامة مركزية في بناء الحياة الروحية الإسلامية. إنه يشكل نموذجاً أعلى للعبودية الخالصة، ويمنحنا مفتاحاً لفهم عميق لمفهوم التوبة الدائم، والعودة الصادقة إلى الله.

في عالم يتسم بالضجيج والغفلة، يُقدم هذا الحديث دعوة صريحة لإحياء القلب، ومراجعة السلوك، والتوجه اليومي نحو الله بالمغفرة والندم، في مسار مستمر من التطهر والتجدد.

المراجع:

1. صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق محمد زهير الناصر.

2. صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.