التنمر في العمل: أسبابه، أعراضه، وطرق مواجهته

يُعد التنمر في بيئة العمل من الظواهر السلبية التي تؤثر على الأداء المهني والنفسي للعاملين، وهو سلوك عدواني متكرر يتضمن الإساءة اللفظية أو الجسدية أو النفسية تجاه شخص أو مجموعة داخل مكان العمل. هذا السلوك يعرقل بيئة العمل السليمة، ويؤدي إلى تدهور جودة الأداء، ويخلق أجواءً من التوتر والخوف بين الموظفين.

في هذا المقال المفصل، سنناقش بالتفصيل أسباب التنمر في العمل، أعراضه على الأفراد والمنظمة، بالإضافة إلى استراتيجيات وطرق مواجهته بأسلوب علمي مدعوم بالدراسات الحديثة.

أولاً: أسباب التنمر في العمل

التنمر في مكان العمل لا يحدث عشوائياً، بل ينشأ نتيجة مجموعة من العوامل المتشابكة التي قد تكون شخصية، بيئية، أو تنظيمية. ومن أبرز هذه الأسباب:

1. ضعف الثقافة التنظيمية وقلة الرقابة

تتسم بعض المؤسسات بغياب ثقافة العمل الصحية، أو ضعف تطبيق القوانين الداخلية المتعلقة بسلوك الموظفين. قد يؤدي هذا إلى عدم وجود رادع حقيقي يمنع السلوك العدواني أو التنمري بين الزملاء.

2. التوتر والضغوط المهنية

الضغوط المتراكمة في بيئة العمل من مواعيد نهائية ضيقة، مطالب متزايدة، أو إدارة غير فعالة، تؤدي إلى خلق أجواء توتر نفسي تجعل بعض الموظفين يمارسون التنمر كوسيلة لتفريغ توترهم أو فرض سيطرتهم على الآخرين.

3. عدم التوازن في السلطة

وجود هرمية صارمة مع استبداد بعض القادة أو المديرين، قد يخلق بيئة تسمح لهم بممارسة التنمر تجاه المرؤوسين، إذ يستغلون سلطتهم لفرض سلوكيات سلبية دون محاسبة.

4. الغيرة والمنافسة السلبية

تنافس بعض الزملاء على الترقيات أو المكافآت قد يتحول إلى صراع نفسي يسفر عن تصرفات تنمرية، مثل التشهير، التقليل من قدر الآخرين، أو نشر الشائعات.

5. عوامل شخصية ونفسية

في بعض الحالات، يعاني المتنمر من مشاكل نفسية أو شخصية مثل الانخفاض في احترام الذات، أو السعي لإثبات التفوق على الآخرين بطريقة سلبية. كما أن هناك من يفتقر إلى مهارات التواصل الفعّال ويستخدم التنمر كآلية دفاع.

ثانياً: أعراض التنمر في العمل

يمكن رصد التنمر في العمل من خلال مجموعة من الأعراض التي تظهر على الفرد المتعرض له، وكذلك على بيئة العمل ككل، منها:

أعراض نفسية وسلوكية على الفرد:

• القلق والاكتئاب: يظهر ضحايا التنمر غالباً حالة من القلق المستمر والاكتئاب بسبب التعرض المتكرر للإساءة.

• انخفاض الإنتاجية: تراجع القدرة على التركيز والانجاز بسبب التوتر النفسي والخوف من التعرض للتنمر.

• الانسحاب الاجتماعي: تجنب التواصل مع الزملاء أو الحضور في الاجتماعات خوفاً من التعرض للإهانة أو السخرية.

• تدهور الثقة بالنفس: يشعر الفرد بعدم الكفاءة وانعدام الدعم، ما يقلل من عزيمته.

• الأمراض الجسدية: قد تؤدي الضغوط النفسية المرتبطة بالتنمر إلى أعراض جسدية مثل الصداع، اضطرابات النوم، وأمراض مزمنة مرتبطة بالإجهاد.

تأثيرات على بيئة العمل:

• ارتفاع معدل الغياب: بسبب الانزعاج النفسي، يزداد غياب الموظفين المتنمر عليهم، مما يؤثر على سير العمل.

• انخفاض الروح المعنوية: وجود التنمر يضعف الروح الجماعية ويقلل من تحفيز الفريق.

• زيادة معدل الدوران الوظيفي: يختار الضحايا مغادرة العمل بسبب بيئة سلبية، مما يؤدي إلى فقدان الكفاءات وزيادة التكاليف على المؤسسة.

• تراجع سمعة المؤسسة: تنتشر أخبار التنمر، مما يؤثر على صورة المؤسسة في السوق ويقلل من قدرتها على جذب المواهب.

ثالثاً: أشكال التنمر في العمل

التنمر لا يقتصر فقط على الإهانة اللفظية أو الاعتداء الجسدي، بل يتخذ أشكالاً متعددة منها:

• التنمر اللفظي: مثل السخرية، التحقير، التهديد، إصدار الأوامر بطريقة مهينة.

• التنمر النفسي: الإقصاء المتعمد من الأنشطة، نشر الشائعات، الإضرار بسمعة الضحية.

• التنمر الجسدي: يشمل الدفع، الاعتداء الجسدي، أو العبث بممتلكات الموظف.

• التنمر الإلكتروني: استخدام وسائل التواصل الداخلي أو الخارجي لمهاجمة الموظف أو نشر محتوى مسيء ضده.

• التنمر الإداري: استغلال السلطة لفرض قرارات تعسفية أو تحميل الموظف مهام غير منصفة.

رابعاً: كيفية مواجهة التنمر في العمل

مواجهة التنمر تتطلب استراتيجية شاملة تشمل دور الفرد والمؤسسة، ومن أهم الخطوات:

1. التوعية والتثقيف

ينبغي على المؤسسات تنظيم ورش عمل ودورات تدريبية لتوعية الموظفين بأشكال التنمر وأضراره، وكيفية الإبلاغ عنه بطرق آمنة وسرية. زيادة الوعي يقلل من التسامح مع السلوك التنمري.

2. وضع سياسات واضحة لمكافحة التنمر

يجب أن تضع الإدارة سياسات صارمة تحدد السلوكيات المرفوضة، وتوضح العقوبات المترتبة على التنمر. هذه السياسات يجب أن تكون معروفة للجميع ومطبقة بحزم.

3. توفير آليات للإبلاغ والدعم

من المهم توفير قنوات آمنة وسرية تتيح للضحايا الإبلاغ عن التنمر دون خوف من الانتقام، بالإضافة إلى توفير دعم نفسي ومشورة قانونية للمتضررين.

4. تطوير مهارات التواصل وحل النزاعات

تدريب الموظفين على مهارات التواصل الفعّال وإدارة الصراعات يساعد على تقليل سوء الفهم ويمنع تصاعد النزاعات إلى تنمر.

5. تعزيز القيادة الإيجابية

على القادة والمديرين أن يكونوا قدوة في التعامل الإنساني والعادل، وأن يدعموا بيئة عمل مفتوحة تعتمد على الاحترام والتعاون، مع متابعة دقيقة لسلوك الموظفين.

6. الاهتمام بالصحة النفسية

توفير برامج دعم الصحة النفسية في مكان العمل من خلال جلسات استشارية أو مبادرات تخفيف الضغط يساعد الموظفين على التعامل مع الضغوط دون اللجوء إلى التنمر.

7. المتابعة والمحاسبة

عند حدوث حالات تنمر، يجب أن تتبعها إجراءات تحقيق عادلة وسريعة مع تطبيق العقوبات المناسبة على المتنمرين، للحفاظ على المصداقية وتفعيل الردع.

جدول توضيحي لأنواع التنمر وأمثلة عليه

خامساً: آثار التنمر على الفرد والمؤسسة

التنمر لا يضر الفرد فقط، بل يترك آثاره السلبية على المؤسسة ككل. فيما يلي تفصيل لهذه الآثار:

على الفرد:

• تدهور الصحة النفسية: ارتفاع معدلات الاكتئاب، اضطرابات القلق، والأفكار الانتحارية في حالات شديدة.

• تراجع الأداء المهني: انخفاض في جودة العمل وزيادة الأخطاء.

• مشاكل صحية مزمنة: مثل ارتفاع ضغط الدم، مشاكل القلب، واضطرابات النوم.

على المؤسسة:

• انخفاض الإنتاجية الجماعية: بيئة العمل السلبية تؤثر على أداء الفريق.

• ارتفاع معدلات الغياب والدوران الوظيفي: مما يؤدي إلى تكاليف إضافية على التوظيف والتدريب.

• تدهور سمعة المؤسسة: مما يؤثر على العلاقات التجارية والشراكات المستقبلية.

سادساً: دراسات حديثة حول التنمر في العمل

أظهرت الدراسات الحديثة أن ما نسبته 20-30% من العاملين حول العالم قد تعرضوا لشكل من أشكال التنمر في مكان عملهم، مما دفع الباحثين إلى تسليط الضوء على أهمية مواجهة هذه الظاهرة بجدية. إحدى الدراسات التي نشرت في مجلة “Journal of Occupational Health Psychology” أظهرت أن الموظفين الذين يتعرضون للتنمر يعانون من انخفاض كبير في الرضا الوظيفي وزيادة في معدل الاستقالات.

كما أكدت دراسات أخرى أن الشركات التي تستثمر في برامج مكافحة التنمر وتطوير بيئة عمل صحية تحقق معدلات إنتاجية أعلى بنسبة تصل إلى 25% مقارنة بالشركات التي تتجاهل هذه القضية.

خاتمة

التنمر في العمل مشكلة معقدة تتطلب تضافر جهود الفرد والمؤسسة لضمان بيئة عمل صحية وآمنة. فهم أسباب التنمر وأعراضه يوفر الأساس لتطبيق استراتيجيات فعالة لمواجهته. المؤسسات التي تضع سياسات واضحة وتعزز ثقافة الاحترام والتعاون تحقق بيئة عمل أكثر إنتاجية واستقراراً. بالتالي، فإن مكافحة التنمر ليست فقط مسؤولية أخلاقية، بل استثمار ضروري في مستقبل العمل وجودة الأداء.

المصادر والمراجع

• Einarsen, S., Hoel, H., Zapf, D., & Cooper, C. L. (2020). Bullying and Harassment in the Workplace: Developments in Theory, Research, and Practice. CRC Press.

• Nielsen, M. B., & Einarsen, S. (2018). What we know, what we do not know, and what we should and could have known about workplace bullying: An overview of the literature and agenda for future research. Aggression and Violent Behavior, 42, 71-83.