التفهّم العاطفي (الجزء الأول): المفهوم، الجذور النفسية، والأبعاد الاجتماعية

يُعدّ التفهّم العاطفي من أرقى المهارات الإنسانية وأكثرها تأثيراً في العلاقات الاجتماعية، سواء على الصعيد الشخصي أو المهني أو المجتمعي. هذه المهارة لا تنحصر فقط في القدرة على إدراك مشاعر الآخرين، بل تشمل أيضاً الوعي بالذات، والقدرة على الاستجابة للمشاعر بطريقة تبني الجسور لا الحواجز، وتُسهم في خلق بيئات تواصلية قائمة على القبول والدعم والاحترام. في هذا المقال، يتم تناول مفهوم التفهم العاطفي من منظوره النفسي والاجتماعي والتربوي، مع تفكيك عناصره وأبعاده وسرد السياقات التي تجعله ضرورة حتمية لتماسك المجتمعات واستقرار الأفراد.

أولاً: المفهوم العلمي للتفهّم العاطفي

يُعرَّف التفهّم العاطفي بأنه القدرة على التعرف على مشاعر الآخرين وفهمها ومشاركتها، والقدرة على وضع النفس مكان الطرف الآخر دون الوقوع في فخ الإسقاط أو الحكم المسبق. وهو أحد المكونات الأساسية لما يسمى بـ “الذكاء العاطفي”، الذي عرّفه عالم النفس دانييل جولمان بأنه “القدرة على التعرف على مشاعر الذات ومشاعر الآخرين، والتحكم فيها، وتوظيفها بطريقة صحيحة تساهم في جودة الحياة الشخصية والاجتماعية”.

لا يقتصر التفهّم العاطفي على التعاطف السلبي أو الحزن مع من يتألم، بل هو عملية مركّبة تشمل ثلاثة مستويات متكاملة:

1. المستوى الإدراكي: معرفة أن الشخص الآخر يمر بحالة عاطفية معينة.

2. المستوى العاطفي: الإحساس بمشاعر الشخص الآخر أو التعاطف معها.

3. المستوى السلوكي: الاستجابة بطريقة داعمة ومناسبة لتلك المشاعر.

ثانياً: التفهّم العاطفي في السياق النفسي

في علم النفس، يُعدّ التفهم العاطفي مؤشراً على النضج النفسي والانفعالي للفرد. فالشخص القادر على التفهم العاطفي غالباً ما يكون قد قطع شوطاً في اكتشاف ذاته، وفهم حاجاته، ووعي تاريخه النفسي. وهذا ما يجعله أكثر قدرة على تقبّل اختلافات الآخرين دون تبني مواقف دفاعية أو هجومية.

الأفراد ذوو التفهّم العاطفي العالي يمتلكون عادة قدرة أكبر على:

• ضبط الانفعالات في المواقف المتوترة.

• تقليل النزاعات الاجتماعية عن طريق تبني منظور الآخر.

• بناء علاقات مستقرة تقوم على الاحترام والتقدير.

وقد أظهرت الدراسات النفسية أن الأفراد الذين يتمتعون بدرجات عالية من التفهم العاطفي أقل عرضة للإصابة بالاكتئاب والقلق، وأكثر قدرة على تجاوز الأزمات والمحن.

ثالثاً: الجذور العصبية للتفهّم العاطفي

التفهّم العاطفي ليس عملية عشوائية أو فطرية بالكامل، بل له أساس بيولوجي واضح. وتشير الأبحاث في علم الأعصاب إلى أن مناطق معينة في الدماغ تلعب دوراً محورياً في قدراتنا على فهم مشاعر الآخرين، وعلى رأسها:

• اللوزة الدماغية (Amygdala): وهي مسؤولة عن تحليل المؤثرات العاطفية.

• الفص الجبهي (Prefrontal Cortex): يتحكم في عمليات التنظيم والانتباه وضبط السلوك، ويعزز الاستجابات المناسبة للمشاعر.

• الجزء الإنسي من القشرة الجبهية (Medial Prefrontal Cortex): يساعد في تبني منظور الآخر، أي القدرة على التفكير من وجهة نظر شخص آخر.

هذه التكوينات العصبية تفسر كيف يمكن للتفهّم العاطفي أن يكون مكوّناً وراثياً جزئياً، لكنه في الوقت ذاته مهارة يمكن تعزيزها من خلال التعلم والممارسة.

رابعاً: التفهّم العاطفي في الأسرة والتربية

تلعب الأسرة دوراً جوهرياً في تشكيل قدرات الفرد على التفهم العاطفي. إذ أن الطفل الذي يُعامَل بتفهّم واحترام لمشاعره، يتعلم بدوره كيفية التعاطف مع الآخرين. في المقابل، فإن البيئات الأسرية التي تقمع المشاعر أو تتجاهلها تنشئ أفراداً يعانون من صعوبة في فهم مشاعر الغير والتعاطي معها.

التربية القائمة على التعاطف تتيح للأبناء ما يلي:

• تطوير مهارات الإصغاء النشط.

• التمرس على فهم الإشارات غير اللفظية.

• التعبير عن المشاعر بطرق صحية.

• التعاطف مع المعاناة من دون الانغماس السلبي فيها.

وتُعتبر لغة المشاعر أحد أهم الأدوات التربوية التي يجب تعزيزها لدى الأطفال منذ مراحل مبكرة، من خلال تعويدهم على تسمية مشاعرهم وتفسيرها والتعامل معها بوعي.

خامساً: التفهّم العاطفي في العلاقات الاجتماعية

تُعد العلاقات الإنسانية السليمة مرآة حقيقية للتفهّم العاطفي. ففي العلاقات العاطفية، والصداقة، والزمالة، والأسرة، يُمثل التفهم العاطفي صمام الأمان الذي يقي من التوترات والانفجارات المفاجئة.

فالشخص المتفهّم لا يُسارع إلى إطلاق الأحكام، بل يُعطي مساحة لمشاعر الآخر. وهو أيضاً قادر على تحمّل الحساسيات الفردية من دون أن يراها تهديداً لذاته أو كرامته.

وتشير دراسات في علم الاجتماع إلى أن المجتمعات التي تعزز ثقافة التفهّم العاطفي، تسجل معدلات أقل من الجريمة، والتفكك الأسري، والتنمر، والعنف اللفظي، والنفور الاجتماعي.

سادساً: التفهّم العاطفي في بيئة العمل

بيئة العمل اليوم تتطلب أكثر من الكفاءة الفنية أو الخبرة التقنية. فالموظف أو القائد الذي لا يتمتع بالتفهّم العاطفي قد يخلق توترات مزمنة حتى وإن كان بارعاً في مهامه.

وتتجلى أهمية التفهّم العاطفي في بيئة العمل في النقاط التالية:

• تعزيز روح الفريق والتعاون.

• تقليل النزاعات الداخلية ورفع مستوى الإنتاجية.

• تحسين جودة القيادة والإشراف.

• دعم ثقافة الشفافية والاحترام المتبادل.

وقد بدأ العديد من أصحاب الأعمال في دمج اختبارات الذكاء العاطفي ضمن إجراءات التوظيف والترقية، إيماناً منهم بأن التفهم العاطفي لم يعد ترفاً اجتماعياً، بل حاجة مؤسسية ملحّة.

سابعاً: التفهّم العاطفي في الثقافة والهوية

تتفاوت المجتمعات في درجات تعزيزها للتفهّم العاطفي، بحسب القيم الثقافية والتقاليد السائدة. فالمجتمعات التي تكرّس مفاهيم الذكورة المتصلّبة أو تلك التي تُهمّش التعبير عن المشاعر، تميل إلى إنتاج أفراد أقل قدرة على التفهّم العاطفي.

في المقابل، تُسهم الفنون، والآداب، والفلسفة، والقصص الشعبية، في بناء وجدان جماعي يُنمي روح المشاركة الوجدانية والتعاطف مع الآخر.

وقد أثبتت التجارب أن المجتمعات ذات التراث الأدبي الغني، وخصوصاً تلك التي تحتفي بالقصص الإنسانية، غالباً ما يكون فيها التفهّم العاطفي جزءاً من الشخصية القومية.

ثامناً: التفهّم العاطفي في زمن التكنولوجيا

مع دخول المجتمعات مرحلة التواصل الرقمي المكثف، أُثيرت أسئلة حول مصير التفهّم العاطفي في زمن الشاشات والهواتف. فالتواصل غير اللفظي، وهو من ركائز التفهّم، تراجع أمام النصوص القصيرة والرموز التعبيرية.

وقد نبه علماء النفس والاجتماع إلى ظواهر مثل “البلادة العاطفية الرقمية”، والتي تجعل الأفراد أكثر تسرعاً في إطلاق الأحكام، وأقل قدرة على قراءة مشاعر الآخرين.

ولتجاوز هذه التحديات، ظهرت مبادرات رقمية لتعليم التفهّم العاطفي عبر تطبيقات تدريبية، وألعاب تعليمية للأطفال، وبرامج توعية للآباء والمعلّمين، بهدف إعادة إحياء القيمة الوجدانية في العلاقات الرقمية.

جدول: مستويات التفهّم العاطفي ومؤشراتها

تاسعاً: التفهّم العاطفي والوعي بالذات

لا يمكن تحقيق التفهّم العاطفي دون وعي ذاتي متقدم. فكلما كان الفرد قادراً على فهم مشاعره وضبطها، كلما كان أقدر على استقبال مشاعر الآخرين وتفكيكها بموضوعية.

الوعي بالذات يُعدّ تدريباً مستمراً يتطلب:

• التأمل في التجارب العاطفية.

• القدرة على الاعتراف بالمشاعر السلبية دون إنكارها.

• التحرر من الأنماط الدفاعية في التواصل.

• قبول الهشاشة الإنسانية بوصفها جزءاً من النضج.

هذا الربط بين التفهّم العاطفي والوعي الذاتي يجعل من تلك المهارة بوابة حقيقية للسلام الداخلي والانفتاح على الغير.

عاشراً: التفهّم العاطفي كقيمة أخلاقية

التفهّم العاطفي ليس مجرد مهارة أو صفة شخصية، بل هو قيمة أخلاقية تعكس احترام الكرامة الإنسانية. فحين يتعامل الإنسان مع الآخر على أساس المشاعر المشتركة، تتراجع النظرة النفعية أو التقييمية، ويحل مكانها نوع من الاعتراف العميق بإنسانية الآخر.

وقد أبرزت الفلسفات الروحية والديانات الكبرى أهمية هذا النوع من التفاعل، بوصفه أساساً للرحمة والتسامح والعدالة الاجتماعية. وهو أيضاً قاعدة ذهبية في فلسفات التربية الحديثة، حيث يُعلَّم الأطفال منذ الصغر أن “يفكروا بقلوبهم” لا بعقولهم فقط.

المراجع:

1. Goleman, D. (1995). Emotional Intelligence: Why It Can Matter More Than IQ. Bantam Books.

2. Decety, J., & Jackson, P. L. (2006). “A social neuroscience perspective on empathy.” Current Directions in Psychological Science, 15(2), 54–58.