ماذا نتعلم؟ الارتباطات أم البنى المعرفية والأفكار

إن عملية التعلم من أكثر العمليات المعقدة والغنية التي يقوم بها الإنسان، فهي ليست مجرد تراكم للمعلومات، بل هي بناء مستمر للبنى المعرفية والأفكار التي تنظم تلك المعلومات بطريقة تسمح باستخدامها وفهمها وتطويرها. لذلك، يتساءل الباحثون والمفكرون في مجالات التعليم وعلم النفس المعرفي: ماذا نتعلم بالضبط؟ هل نتعلم مجرد ارتباطات بين أحداث وأشياء مختلفة، أم نتعلم بنى معرفية متماسكة وأفكاراً منظمة تسمح لنا بفهم أعمق للعالم من حولنا؟

التعلم: بين الارتباطات والبنى المعرفية

يمكن تصور التعلم كعملية تمتد على مستويين رئيسيين: المستوى الأول هو مستوى الارتباطات، والمستوى الثاني هو مستوى البنى المعرفية والأفكار.

الارتباطات: الأساس الأولي للتعلم

الارتباطات هي العلاقات المباشرة بين مثيرات أو أحداث مختلفة في البيئة والتجارب الشخصية. فمثلاً، عندما يربط الإنسان بين رنين الجرس وحصوله على الطعام، فإن ذلك يمثل تعلم ارتباطي بسيط (كما هو الحال في التجارب الكلاسيكية مثل تجربة بافلوف مع الكلاب). هذه الارتباطات تمثل شكلاً أساسياً وبسيطاً من أشكال التعلم، وهي تبدأ منذ الطفولة المبكرة وحتى مرحلة البلوغ.

هذه الارتباطات تتميز بأنها:

• تكون سريعة الحدوث.

• تعتمد بشكل رئيسي على التجربة المباشرة.

• تتمحور حول الاستجابات التلقائية أو المشروطة للمثيرات.

على الرغم من بساطتها، فإن الارتباطات هي حجر الزاوية في بناء المعرفة. فالإنسان لا يمكنه أن يبدأ بفهم مفاهيم مجردة دون أن يكون قد كوّن أولاً ارتباطات بسيطة في ذهنه، مثل ربط أسماء الأشياء بأشكالها وألوانها وأصواتها.

البنى المعرفية والأفكار: البناء الأعلى للتعلم

أما البنى المعرفية فهي تعني تنظيم المعلومات في شكل أنماط متماسكة من المعرفة التي تتضمن مفاهيم، علاقات، قواعد، ونماذج ذهنية تسمح للفرد بفهم العالم بعمق أكبر. هذه البنى لا تقتصر على مجرد تكرار ارتباطات أو تذكر معلومات، بل تشمل تفسيرها، وربطها بسياقات أوسع، واستخدامها في حل المشكلات واتخاذ القرارات.

تتمثل هذه البنى في:

• المفاهيم (Concepts): مثل مفهوم العدالة، الحرية، أو الطاقة.

• القوانين والنظريات: مثل قوانين الفيزياء، أو النظريات الاقتصادية.

• النماذج الذهنية: التي تساعد على تصور الظواهر أو التنبؤ بها.

• الأفكار المجردة: التي تنشأ من التفكير النقدي والتحليلي.

إن البنى المعرفية هي التي تميز الإنسان عن باقي الكائنات، فهي تسمح له بالتفكير، التخيل، الابتكار، والتعلم المستمر عبر تجاربه المختلفة، بما يتجاوز مجرد الربط بين مثيرات منفصلة.

الفرق الجوهر بين الارتباطات والبنى المعرفية

يمكن التمييز بين الارتباطات والبنى المعرفية من خلال عدة جوانب:

كيف تتكامل الارتباطات مع البنى المعرفية؟

على الرغم من اختلافهما، إلا أن الارتباطات والبنى المعرفية ليستا متناقضتين بل مكملتين لبعضهما البعض في عملية التعلم.

في المراحل الأولى من التعلم، يعتمد الإنسان بشكل كبير على الارتباطات لتكوين المعرفة الأولية حول العالم المحيط به، ومن ثم تتحول هذه الارتباطات إلى مفاهيم وأفكار أكثر تعقيداً من خلال عمليات الدمج، التنظيم، والتحليل. هذا التحول يحدث عبر عمليات متعددة تشمل:

• التعميم: حيث يتم تعميم ارتباط معين ليشمل حالات مشابهة.

• التمييز: حيث يتم التعرف على الفروق بين حالات متشابهة.

• التركيب: تجميع المعلومات المرتبطة لتكوين مفهوم أو فكرة جديدة.

• التقويم: مراجعة وربط المعرفة الجديدة بما هو موجود بالفعل.

على سبيل المثال، طفل يتعلم أن الصوت الصادر من جرس معين يعني قدوم الطعام (ارتباط بسيط)، ومع الوقت يتعلم أن الجرس هو إشارة وقت الطعام في المدرسة، وأنه مرتبط بأوقات معينة، ثم ينمو هذا الفهم ليصبح فكرة عن تنظيم الوقت أو الإشارات الاجتماعية.

نماذج علمية للتعلم بين الارتباطات والبنى المعرفية

نموذج التعلم السلوكي (Behaviorism)

يركز هذا النموذج على التعلم من خلال الارتباطات فقط، حيث يُنظر إلى السلوك كنتيجة مباشرة للمثير والاستجابة. التعلم يتم عن طريق التعزيز والعقاب، ويفترض أن جميع السلوكيات يمكن تفسيرها من خلال الارتباطات التي تكونت.

هذا النموذج، على الرغم من بساطته، كان له دور أساسي في تطوير نظريات التعليم والتدريب، خصوصاً في السياقات التي تتطلب تعلماً واضحاً وسريعاً.

النموذج المعرفي (Cognitive Model)

يقدم هذا النموذج رؤية أعمق للتعلم، إذ يعتبر أن العقل لا يعمل كمجرد متلقٍ للمثيرات، بل كمُعالج للمعلومات يقوم ببناء أنماط معرفية معقدة. في هذا النموذج، لا تقتصر عملية التعلم على تراكم معلومات بل تشمل فهم العلاقات بينها، تصنيفها، وربطها بسياقات أكبر.

ينتقل التركيز من مجرد حفظ المعلومات إلى تطوير مهارات التفكير النقدي، التحليل، وحل المشكلات، وكلها تعتمد على بناء بنى معرفية قوية.

النموذج البنائية (Constructivism)

يركز هذا النموذج على أن التعلم هو بناء نشط للمعرفة، حيث يقوم المتعلم بتشكيل بنى معرفية خاصة به بناءً على تجاربه السابقة وتفاعله مع البيئة. التعلم هنا ليس تلقياً بل عملية نشطة، يشكل فيها المتعلم أفكاره ومفاهيمه بناءً على فهمه الخاص.

يُعد هذا النموذج أساساً للكثير من استراتيجيات التعليم الحديث التي تشجع على التفكير المستقل والتعلم الذاتي.

التعلم في العصر الحديث: دمج الارتباطات والبنى المعرفية

مع التقدم التكنولوجي وانتشار المعرفة، أصبح التعلم أعمق وأشمل. لم يعد يكفي مجرد تعلم ارتباطات أو حقائق معزولة، بل بات ضرورياً بناء بنى معرفية متكاملة تستطيع التعامل مع الكم الهائل من المعلومات بطريقة منهجية.

تكنولوجيا التعليم الحديثة تعتمد على تقنيات متعددة:

• التعلم التفاعلي: حيث يتفاعل المتعلم مع المحتوى بدلاً من تلقيه فقط.

• التعلم التكيفي: الذي يكيف المحتوى التعليمي بناءً على مستوى المتعلم واحتياجاته.

• الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي: التي تدعم بناء نماذج معرفية معقدة وتساعد في تقديم محتوى شخصي.

هذه التقنيات تدعم بشكل كبير عملية بناء البنى المعرفية، مع الحفاظ على تكوين ارتباطات قوية ذات معنى.

أهمية فهم الفرق بين الارتباطات والبنى المعرفية في التعليم

فهم هذا الفرق يساعد في تصميم برامج تعليمية أكثر فاعلية. على سبيل المثال:

• في المراحل الأولى من التعليم، يجب التركيز على بناء ارتباطات قوية بين المثيرات والمفاهيم الأساسية.

• في المراحل المتقدمة، يتحول التركيز إلى بناء بنى معرفية متقدمة تتضمن مهارات التفكير والتحليل.

• الاستراتيجيات التعليمية يجب أن تكون مرنة لتناسب كلا المستويين من التعلم، بحيث تبدأ بالارتباطات البسيطة ثم تنتقل إلى البنى المعرفية.

أمثلة تطبيقية

في تعليم اللغات

تعلم اللغة يبدأ بتكوين ارتباطات بين الكلمات والأصوات والمعاني، مثل ربط كلمة “قطة” بصورة الحيوان. بعد ذلك، تُبنى بنى معرفية تشمل قواعد اللغة، تركيب الجمل، واستخدام اللغة في سياقات متعددة.

في العلوم

في دراسة العلوم، يبدأ المتعلم بتكوين ارتباطات بين الملاحظات والتجارب، مثل رؤية أن النار تسبب حرارة. ثم تتطور البنى المعرفية إلى فهم قوانين الفيزياء أو الكيمياء التي تشرح الظواهر بشكل منهجي.

تأثير البنى المعرفية على التذكر والتطبيق

البنى المعرفية تساعد على تحسين قدرة التذكر والاستدعاء، لأنها تتيح تصنيف وترتيب المعلومات بطريقة منظمة، مما يسهل ربط المعرفة الجديدة بما هو موجود بالفعل. بالتالي، يكون لدى المتعلم قدرة أفضل على استخدام المعرفة في مواقف جديدة.

خلاصة

التعلم ليس مجرد اكتساب ارتباطات منفصلة أو معلومات عشوائية، بل هو عملية بناء متكاملة للبنى المعرفية والأفكار التي تنظم هذه المعلومات ضمن أنماط من المعرفة العميقة والمترابطة. الارتباطات هي البداية الأولى التي تبني الأساس، بينما البنى المعرفية تسمح بتطوير التفكير النقدي، الفهم العميق، والقدرة على الإبداع. في ظل تطور العلوم والتكنولوجيا، يصبح من الضروري التركيز على بناء هذه البنى المعرفية لكي يكون التعلم فعالاً ومستداماً، قادرًا على مواكبة التحديات الحديثة ومتطلبات العصر.

المصادر والمراجع

1. Anderson, J. R. (1990). Cognitive Psychology and Its Implications. Worth Publishers.

2. Piaget, J. (1970). Science of Education and the Psychology of the Child. Viking Press.