الانشغال بأكثر من مهمة في آن واحد يُزيد الأخطاء: حقيقة علمية وآثار نفسية
في عالمنا المعاصر الذي يتسم بتسارع وتيرة الحياة وتزايد المهام اليومية، أصبح مفهوم “الانشغال بأكثر من مهمة في آن واحد” أو ما يُعرف بـ “التعددية في المهام” (Multitasking) سمةً شائعة. فقد أصبح من المعتاد أن نجد الأفراد يتنقلون بين العديد من الأنشطة في وقت واحد: الرد على رسائل البريد الإلكتروني أثناء الاجتماعات، تصفح وسائل التواصل الاجتماعي بينما يتحدثون مع شخص آخر، أو العمل على أكثر من مشروع في نفس الوقت. ولكن رغم الانتشار الواسع لهذه العادة، فإن الدراسات العلمية تشير إلى أن الانشغال بأكثر من مهمة في آن واحد لا يعزز الإنتاجية كما يعتقد الكثيرون، بل قد يؤدي إلى زيادة الأخطاء والتقليل من جودة الأداء.
الفهم الخاطئ للتعددية في المهام
قد يُفترض أن الإنسان يمكنه ببساطة تقسيم انتباهه بين مهام متعددة في وقت واحد وأن ذلك يساعد في إنجاز المزيد من العمل. لكن هذا الفهم لا يعكس الواقع العلمي. في الحقيقة، الدماغ البشري غير مهيأ للتعامل مع أكثر من مهمة معقدة في وقت واحد. إن قدرتنا على أداء المهام بكفاءة تعتمد بشكل كبير على التركيز الكامل في كل مهمة على حدة. وبدلاً من التعددية الحقيقية في المهام، يقوم الدماغ ببساطة بالتنقل بين المهام المختلفة بسرعة، ما يؤدي إلى ما يُسمى “التبديل بين المهام” (Task Switching)، وهو عملية تتطلب وقتًا وطاقة ذهنية.
تأثير التعددية في المهام على الدماغ
عندما يحاول الشخص التبديل بين مهام متعددة في وقت واحد، فإن الدماغ يعاني من تشتت في الانتباه، ما يؤدي إلى انخفاض القدرة على التركيز على أي من المهام. الدراسات التي تم إجراؤها على نشاط الدماغ أظهرت أن التعددية في المهام تتسبب في انخفاض نشاط القشرة الأمامية للدماغ (Prefrontal Cortex)، وهي المنطقة المسؤولة عن اتخاذ القرارات وتنظيم الانتباه. وعندما يصبح الدماغ في حالة من التشتت المستمر بين المهام المختلفة، يصعب عليه تخصيص الطاقة اللازمة للمهام المعقدة، مما يزيد من احتمال حدوث الأخطاء.
زيادة الأخطاء بسبب التعددية في المهام
عندما يتعامل الإنسان مع أكثر من مهمة في آن واحد، فإنه في أغلب الأحيان يضحي بالدقة والجودة مقابل السرعة. فبدلاً من إتمام كل مهمة بشكل كامل وبتركيز عالٍ، يتنقل الشخص بين المهام بشكل سريع، مما يقلل من قدرته على إتمام كل مهمة بشكل مثالي. هذا التنقل السريع بين المهام يمكن أن يؤدي إلى:
-
زيادة الأخطاء: إذ أن الدماغ لا يُعطي كل مهمة حقها من التركيز، مما يعرض الشخص لزيادة الأخطاء في كل مهمة. قد يتم إغفال تفاصيل مهمة، أو تنفيذ عملية بشكل غير دقيق، أو اتخاذ قرارات غير مدروسة.
-
انخفاض الأداء العام: عندما تكون المهام غير مكتملة أو مُنفذة بشكل غير دقيق، يتأثر الأداء العام سلبًا. وبالتالي، بدلاً من تحسين الإنتاجية، يتم تضييع الوقت في تصحيح الأخطاء التي كان يمكن تجنبها.
-
الإرهاق الذهني: التبديل المستمر بين المهام يُنهك الدماغ ويزيد من الضغط العصبي. هذا الإرهاق يمكن أن يؤدي إلى تراجع في القدرة على اتخاذ القرارات السليمة والتركيز على المدى الطويل.
-
إعاقة التفكير العميق: التعددية في المهام تمنع العقل من التعمق في التفكير النقدي والتحليلي. بدلاً من أن يتفرغ الشخص لحل مشكلة معينة بشكل عميق، يتم تشتت انتباهه بين مهام متعددة سطحية، ما يجعل من الصعب ابتكار حلول جديدة أو تحسين العمليات.
الآثار النفسية والاجتماعية للتعددية في المهام
ليس فقط الأداء المعرفي يتأثر بالتعددية في المهام، بل يمكن أن يكون لها أيضًا آثار نفسية واجتماعية بعيدة المدى. التبديل المستمر بين المهام يمكن أن يزيد من مستويات التوتر والقلق. فعندما يكون الفرد في حالة من التشتت المستمر، يشعر غالبًا بالضغط لإتمام مهام متعددة في وقت واحد دون القدرة على التوقف للراحة أو التركيز على أمر واحد.
-
التوتر والقلق: عندما يواجه الأفراد مهامًا متعددة في آن واحد، يتزايد شعورهم بعدم القدرة على السيطرة على الأمور. هذا الشعور المستمر بالضغط يمكن أن يؤدي إلى التوتر والقلق النفسي، مما يؤثر على جودة حياتهم الشخصية والمهنية.
-
الشعور بعدم الإنجاز: رغم أن التعددية في المهام قد تُظهر للآخرين أن الشخص يعمل بجد، إلا أن الحقيقة هي أن الشخص قد لا ينجز أي شيء بشكل جيد. هذا الشعور بعدم الإنجاز يمكن أن يؤثر سلبًا على الحالة النفسية للإنسان، مما يؤدي إلى شعور بالإحباط والقلق.
-
العلاقات الاجتماعية: في بيئات العمل أو الحياة الشخصية، يمكن أن يؤدي الانشغال المستمر بمهام متعددة إلى تجاهل أو تقليل التفاعل الاجتماعي مع الآخرين. عندما يكون الفرد منشغلًا طوال الوقت في أشياء مختلفة، فإن ذلك يؤثر على نوعية علاقاته الشخصية والمهنية، ويؤدي إلى انعزاله عن الآخرين.
التعددية في المهام والمستوى الشخصي
يؤثر التعدد بين المهام على الأفراد بشكل مختلف. بينما يعتقد البعض أنهم يصبحون أكثر إنتاجية عندما يقومون بعدة مهام في وقت واحد، فإن الحقيقة هي أن هذه الطريقة تضر بالأداء العقلي على المدى الطويل. من الأهمية بمكان أن يعيد الشخص تقييم كيفية تخصيص وقتي له وكم من المهام التي يمكن إتمامها دون المساومة على التركيز.
أفضل نهج هو تعلّم تحديد الأولويات وتقسيم الوقت بفعالية للتركيز على كل مهمة على حدة. سواء في العمل أو في الحياة اليومية، عندما يتم إعطاء كل مهمة الاهتمام الكامل، تكون النتيجة أفضل بكثير من محاولة القيام بكل شيء في وقت واحد.
