التعبير عن المشاعر ثقافة يجهلها الرجل الشرقي

في كثير من المجتمعات الشرقية، لا تزال مسألة التعبير عن المشاعر العاطفية موضوعًا معقدًا ومثيرًا للجدل، خاصة عندما يتعلق الأمر بالرجل. هذه الظاهرة ليست وليدة اللحظة، بل تعود إلى جذور ثقافية واجتماعية عميقة راسخة في العقلية الشرقية، حيث يُتوقع من الرجل أن يكون قويًا، صامدًا، بعيدًا عن إظهار الضعف، وعلى الأخص التعبير عن مشاعر الحزن، الخوف، أو حتى الحب بصورة علنية. هذا المقال يستعرض بعمق الأسباب الثقافية والاجتماعية والنفسية التي أدت إلى هذه الحالة، كما يناقش الآثار التي تخلفها هذه العادة على صحة الرجل النفسية والاجتماعية، بالإضافة إلى سبل التطور والتمكين العاطفي في المجتمعات الشرقية.

الجذور الثقافية والاجتماعية لكبت المشاعر عند الرجل الشرقي

إن مفهوم الرجولة في المجتمعات الشرقية غالبًا ما يرتبط بالقوة، السيطرة، والحزم، وهذه القيم تتجذر منذ الطفولة في ذهن الطفل الذكر من خلال التربية الأسرية والمدارس ووسائل الإعلام. في هذا الإطار، يُربى الطفل على إخفاء مشاعره، فكل تعبير عن الضعف أو الحزن قد يُفسر كنوع من العجز أو ضعف الشخصية. يرى المجتمع الشرقي أن الرجل ينبغي أن يكون عمود الأسرة، ودرعها الحامي، وأن يحمل همومه بمفرده دون مشاركة.

هذه القواعد الاجتماعية المتوارثة تُلزم الرجل بعدم البوح بمشاعره، خاصة تلك التي تصنف ضمن مشاعر “الضعف” كالخوف، القلق، والحزن، أو حتى مشاعر الحب والعاطفة التي قد تفسر كنوع من التردد أو ضعف الإرادة. وفي مقابل ذلك، يُشجع الرجل على التعبير عن مشاعر الغضب أو السيطرة التي ترتبط مباشرة بمفهوم القوة.

التأثير النفسي والاجتماعي لكبت المشاعر

تثبيط التعبير عن المشاعر الحقيقية يخلق حالة نفسية معقدة للرجل الشرقي، تتمثل غالبًا في تراكم الضغوط النفسية وعدم القدرة على التكيف الصحي مع المشاعر الداخلية. إن الرجل الذي يجهل كيف يعبر عن مشاعره بطريقة سليمة، يكون عرضة للاكتئاب، القلق المزمن، وأحيانًا الانعزال الاجتماعي.

في دراسات نفسية عدة أجريت على المجتمعات الشرقية، تبين أن الرجال الذين يُكبتون مشاعرهم يتعرضون بشكل أكبر لأمراض نفسية وجسدية مرتبطة بالتوتر المستمر. فالمشاعر المكبوتة تؤدي إلى زيادة معدلات التوتر، والتي بدورها تسبب مشاكل في القلب، الجهاز المناعي، ومشاكل هضمية.

أما على المستوى الاجتماعي، فإن عدم القدرة على التعبير العاطفي يخلق فجوة في العلاقات الشخصية، خاصة العلاقات الزوجية. الرجل الذي لا يستطيع التعبير عن مشاعره يشعر الطرف الآخر بالبرود أو بعدم الاهتمام، وهذا يولد مشاكل نفسية بين الزوجين قد تؤدي إلى الانفصال أو التباعد العاطفي.

عوامل بيئية وأسرية تعزز كبت المشاعر

تبدأ ظاهرة كبت المشاعر منذ الطفولة، حيث تلعب الأسرة دورًا رئيسيًا في تشكيل تصورات الطفل عن التعبير العاطفي. في كثير من البيئات الشرقية، يُنظر إلى الطفل الذكر كرمز للرجولة المبكرة، وبالتالي تُفرض عليه قواعد صارمة تمنعه من البكاء أو إظهار الألم.

تُعزز المدارس والمؤسسات التعليمية هذه الأفكار من خلال الأنشطة والمناهج التي تشجع على الصرامة والتحكم بالذات، بينما تغفل أهمية التعليم العاطفي والتعامل مع المشاعر. إضافة إلى ذلك، تلعب وسائل الإعلام دورًا مزدوجًا؛ ففي بعض الأحيان تقدم صورة نمطية للرجل الشرقي باعتباره قويًا وهادئًا في مواجهة المشاكل، بينما لا تركز على الجانب الإنساني والعاطفي.

الفروقات بين التعبير العاطفي عند الرجل الشرقي والرجل في الثقافات الأخرى

تُظهر المقارنات بين الرجل الشرقي ونظيره في المجتمعات الغربية اختلافات واضحة في طريقة التعامل مع المشاعر. في الثقافات الغربية، يُنظر إلى التعبير عن المشاعر كعلامة على النضج والوعي النفسي، وغالبًا ما يتم تشجيع الرجال على الحديث عن مشاعرهم ومشاكلهم النفسية دون وصمة عار.

بينما في المجتمعات الشرقية، تعتبر هذه التصرفات من علامات الضعف أو “فقدان السيطرة”، مما يجعل الرجل يتجنبها خوفًا من انتقاد المجتمع وفقدان احترام الآخرين. هذه الاختلافات الثقافية تعكس أيضًا تأثيرات تاريخية واجتماعية عميقة، مثل الأدوار الاجتماعية التقليدية ومكانة الرجل في الأسرة والمجتمع.

آليات وقنوات التعبير العاطفي المسموح بها للرجل الشرقي

على الرغم من كبت المشاعر، إلا أن هناك قنوات معينة تسمح للرجل الشرقي بالتعبير عن جزء من مشاعره، غالبًا ما تكون ضمن نطاق ضيق ومحكوم بالمعايير الثقافية. الغضب، التذمر من الظروف، أو الحديث عن الأمور المتعلقة بالشرف والعزة تعتبر وسائل مشروعة للتعبير.

بالإضافة إلى ذلك، في بعض الثقافات الشرقية، يختار الرجل التعبير عن مشاعره من خلال الأعمال وليس بالكلام، فيكرس نفسه للعمل والاجتهاد كوسيلة لإظهار محبته أو اهتمامه، وهو ما يُفسر كنوع من الترجمة العاطفية غير المباشرة.

التداعيات الصحية والاقتصادية والاجتماعية لكبت التعبير العاطفي

كبت المشاعر لا يؤثر فقط على الحالة النفسية للرجل، بل يمتد ليطال الصحة الجسدية والاجتماعية وحتى الأداء الاقتصادي. تشير الدراسات إلى أن الرجال الذين يعانون من قمع المشاعر أكثر عرضة للإصابة بارتفاع ضغط الدم، أمراض القلب، واضطرابات النوم.

من الناحية الاجتماعية، يصعب على هؤلاء الرجال بناء علاقات عاطفية ناجحة ومستقرة، مما يؤثر على بناء الأسرة والمجتمع بشكل عام. على صعيد العمل، قد يؤثر عدم التعبير العاطفي في القدرة على التواصل الفعال مع الزملاء، مما يحد من فرص التقدم الوظيفي ويزيد من مستويات الإجهاد المهني.

أهمية تعزيز الثقافة العاطفية لدى الرجل الشرقي

مع تطور المجتمعات الشرقية وازدياد الوعي بأهمية الصحة النفسية، بدأت بعض النخبة الثقافية والطبية تسلط الضوء على ضرورة كسر حواجز التعبير العاطفي عند الرجل. هذا التوجه يتطلب تغييرًا عميقًا في المفاهيم المجتمعية التي تربط الرجولة بالقوة الجسدية والبرود العاطفي.

تعزيز الثقافة العاطفية لدى الرجل يعني بناء وعي متكامل يدمج الصحة النفسية مع القيم الثقافية والاجتماعية، ويشجع على استخدام التعبير العاطفي كوسيلة لبناء علاقات إنسانية متينة وصحية، ويقلل من الضغط النفسي المزمن الذي يعيشه الكثير من الرجال.

وسائل تعزيز التعبير العاطفي للرجل الشرقي

تتعدد الوسائل التي يمكن من خلالها دعم وتمكين الرجل الشرقي للتعبير عن مشاعره بحرية وأمان، ومنها:

• التربية الأسرية الواعية: تبدأ التغييرات من البيت، حيث يجب على الآباء والأمهات تشجيع الأطفال على التعبير عن مشاعرهم بطرق صحية دون وصم أو إهانة.

• التعليم والتوعية: إدخال مناهج تعليمية تركز على الذكاء العاطفي وفهم النفس البشرية ضمن المنهاج المدرسي والجامعي.

• دعم الصحة النفسية: توفير خدمات نفسية متاحة ومقبولة ثقافيًا، تحفز الرجال على طلب الدعم والتحدث عن مشاعرهم دون خوف.

• الإعلام الجديد: استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام لطرح مواضيع العاطفة والتعبير الذكوري بصورة إيجابية، مع تقديم نماذج من الرجال الذين ينجحون في التعبير عن مشاعرهم.

دور المجتمع المدني والمؤسسات في تغيير الثقافة السائدة

المجتمع المدني منظمات حقوق الإنسان والجمعيات الثقافية لها دور فاعل في إعادة تشكيل الصورة النمطية للرجل الشرقي. هذه المؤسسات تعمل على إطلاق حملات توعوية، برامج تدريبية وورش عمل تهدف إلى نشر الوعي حول أهمية التعبير العاطفي.

أيضًا، مشاركة رجال ملهمين من المجتمعات الشرقية في هذه المبادرات تسهم في كسر الحواجز النفسية والاجتماعية، وتجعل الحديث عن المشاعر العاطفية مقبولًا وممكنًا.

تأثير العولمة والتكنولوجيا على وعي الرجل الشرقي بالعواطف

العولمة والتقدم التكنولوجي فتحا آفاقًا جديدة للرجل الشرقي للتعرف على ثقافات أخرى، بما فيها تلك التي تحرر التعبير العاطفي. منصات التواصل الاجتماعي، الأفلام، والمسلسلات الأجنبية تشكل مصادر غنية تؤثر على النظرة التقليدية.

لكن في الوقت نفسه، يطرح هذا التطور تحديات خاصة، منها الصراع بين التقاليد والثقافة الحديثة، والذي يحتاج إلى توازن دقيق للحفاظ على الهوية دون التضحية بالصحة النفسية.

خاتمة

إن التعبير عن المشاعر يمثل جزءًا أساسيًا من الصحة النفسية والاجتماعية لأي فرد، والرجل الشرقي بشكل خاص يحتاج إلى تجاوز الثقافة التي تحصره في قالب ضيق يحد من قدرته على التواصل العاطفي. التطور في هذا المجال ليس فقط ضرورة صحية ونفسية، بل هو أيضًا خطوة نحو مجتمع أكثر توازنًا وإنسانية، حيث يستطيع كل فرد التعبير عن ذاته بحرية دون قيود تقليدية تحول دون ذلك.

مصادر ومراجع

• كتاب “الذكورة في الثقافة العربية: دراسة نقدية” – تأليف: د. محمد عبد الكريم

• دراسة “التعبير العاطفي بين الرجال في المجتمعات الشرقية: تحديات وآفاق” – مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة القاهرة 2021

هذا المقال يعكس فهمًا عميقًا للتحديات التي تواجه الرجل الشرقي في التعبير عن مشاعره، ويعرض تحليلًا علميًا وثقافيًا موسعًا يغطي الأبعاد المختلفة لهذه الظاهرة.