التعامل مع الشخصية النرجسية في بيئة العمل: استراتيجيات عملية لحماية النفس وتعزيز بيئة العمل الصحية

تُعد بيئة العمل ساحةً معقدةً للتفاعلات الإنسانية، حيث تتقاطع الطباع والأنماط الشخصية المختلفة لتشكل نسيجاً يومياً من العلاقات المهنية. من بين هذه الأنماط، تبرز الشخصية النرجسية كأحد أكثر الأنماط إشكالية وصعوبة في التفاعل معها. فالنرجسية، بما تحمله من تضخم في الأنا، والحاجة الدائمة للإعجاب، والسعي للسيطرة، قد تُحدث اختلالًا في التوازن المهني وتؤثر سلباً على الإنتاجية، الروح المعنوية، وحتى الصحة النفسية للزملاء.

يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على الشخصية النرجسية في بيئة العمل من خلال تحليل سماتها، فهم آثارها، واستعراض استراتيجيات فعالة للتعامل معها بشكل يحافظ على المهنية ويقلل من الأضرار المحتملة، مع مراعاة الخصوصيات الثقافية والمهنية في البيئات العربية.

أولاً: تعريف الشخصية النرجسية

الشخصية النرجسية، وفقاً للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5)، تتسم بنمط دائم من العظمة (في الخيال أو السلوك)، والحاجة إلى الإعجاب، ونقص التعاطف مع الآخرين. قد لا يظهر جميع النرجسيين بنفس الدرجة أو الشكل، إذ تختلف مستويات النرجسية من معتدلة إلى مرضية (اضطراب الشخصية النرجسية)، مما يجعل التعامل معهم تحدياً متغير المعالم.

في بيئة العمل، يتجلى هذا النمط في سلوكيات مثل الاستحواذ على النجاح، رفض النقد، تقليل من شأن الآخرين، سلوكيات استعراضية، وتجاهل المصلحة الجماعية لصالح الذات. وغالباً ما يحتلون مواقع قيادية أو يسعون إليها بشراسة، مستغلين قدرتهم على التلاعب والتأثير الظاهري.

ثانياً: السمات النرجسية في بيئة العمل

يمكن ملاحظة مجموعة من الخصائص التي تظهر على الشخصية النرجسية في العمل، ومنها:

1. التمركز حول الذات

يضع الشخص النرجسي مصالحه في صدارة الأولويات، حتى وإن كانت على حساب الفريق أو المؤسسة. يُظهر رغبة مفرطة في الإشادة بإنجازاته حتى لو كانت مجهودات جماعية.

2. التهرب من المسؤولية

عند الفشل، يميل إلى إلقاء اللوم على الآخرين، بينما يسارع في نسب النجاح لنفسه فقط. هذه السمة تخلق جواً من الظلم وتكسر الثقة في بيئة العمل.

3. الاستغلال والتلاعب

يبرع النرجسي في استخدام الآخرين كوسيلة لتحقيق أهدافه الشخصية. يمكن أن يُظهر ودًا مصطنعًا أو يوجه المديح لتحقيق منفعة معينة، لكنه سرعان ما يتنصل عند انتهاء الغرض.

4. رفض النقد

حتى النقد البناء يُفسَّر من قبل النرجسي على أنه هجوم شخصي. قد يُظهر غضباً مبطناً أو سلوكاً دفاعياً أو انتقامياً تجاه من ينتقده.

5. الغيرة المهنية

يشعر بالتهديد من نجاح الآخرين، وقد يسعى لتقويضهم أو تشويه سمعتهم خوفاً من منافستهم لمكانته أو صورته الذاتية.

6. نقص التعاطف

يفتقر إلى القدرة على فهم أو مراعاة مشاعر واحتياجات الزملاء. هذا يجعل العلاقات معه سطحية ومتوترة وغير متوازنة.

ثالثاً: الآثار السلبية لوجود شخصية نرجسية في مكان العمل

لا تقتصر أضرار النرجسية على العلاقات الشخصية فقط، بل تتعداها لتؤثر على المؤسسة بشكل عام. ومن أبرز هذه التأثيرات:

• انخفاض الروح المعنوية للفريق
  يخلق النرجسي بيئة تنافسية غير صحية، ويعزز الانقسامات ويقوض التعاون بين الزملاء.

• زيادة مستويات التوتر والضغط النفسي
  قد يؤدي التعامل اليومي مع شخص نرجسي إلى اضطرابات القلق والإجهاد النفسي، خاصة عندما يكون في موقع سلطة.

• ارتفاع معدلات التسرب الوظيفي
  يميل الموظفون الأكفاء إلى مغادرة المؤسسة هرباً من بيئة سامة لا توفر العدالة أو الاعتراف الحقيقي بالمجهود.

• انخفاض الإنتاجية
  عندما تُستنزف طاقات الموظفين في التعامل مع النزاعات الناتجة عن سلوك النرجسي، تتراجع مستويات التركيز والإبداع والعمل الجماعي.

• تشويه صورة المؤسسة
  في حال كان النرجسي يشغل موقعاً قيادياً، فإن قراراته المتسرعة أو المبنية على دوافع شخصية قد تضر بسمعة المؤسسة وتضعف ثقة العملاء أو الشركاء.

رابعاً: استراتيجيات فعالة للتعامل مع الشخصية النرجسية في العمل

إن التعامل مع النرجسي في العمل يتطلب مزيجاً من الذكاء العاطفي، الحزم، والحذر. ومن أهم الاستراتيجيات:

1. الفصل بين الشخص والسلوك

من المهم التمييز بين الشخص كنمط نفسي وبين تصرفاته. يساعد هذا الفصل على منع ردود الفعل العاطفية المبالغ فيها، ويُمكّن من التصرف بشكل مهني.

2. تحديد الحدود بوضوح

النرجسي لا يحترم الحدود غير المعلنة. لذا يجب رسم خطوط واضحة ومعلنة في التعامل، سواء في المهام، أو المسؤوليات، أو التواصل.

3. التوثيق المستمر

ينبغي توثيق جميع المعاملات المهنية معه كتابة، سواء كانت عبر البريد الإلكتروني أو عبر تقارير رسمية، لحماية النفس من أي تشويه للحقائق أو إساءة لاحقة.

4. عدم الدخول في صراعات مباشرة

النرجسي يستمتع بالسيطرة على الآخرين عاطفياً، وقد يستفز لخلق نزاعات. تجاهل السلوكيات المستفزة، والتمسك بالردود الحيادية والمهنية، هو السبيل الآمن.

5. إدارة التوقعات

عدم توقع الدعم أو التقدير من النرجسي، وتجنب الاعتماد عليه كعنصر داعم، يساهم في تقليل الإحباط وحماية التوازن النفسي.

6. البحث عن دعم خارجي

في حال تكررت الإساءات، أو عند وصول العلاقة إلى مراحل سامة، من المهم اللجوء إلى الموارد البشرية أو المستشار القانوني في المؤسسة.

7. الحفاظ على التوازن النفسي

ممارسة تمارين الاسترخاء، الرياضة، الكتابة التعبيرية، أو التحدث مع صديق موثوق، كلها أدوات تساعد في تفريغ التوتر الناتج عن التعامل مع شخصية نرجسية.

خامساً: إدارة الشخصية النرجسية في موقع القيادة

عندما يحتل النرجسي موقعاً قيادياً، فإن الوضع يكون أكثر تعقيداً، نظراً لتأثيره على القرارات الاستراتيجية. في هذه الحالات، يمكن تطبيق الإجراءات التالية:

• استخدام لغة تعتمد على الإطراء الموجه بذكاء لتحفيز سلوكه الإيجابي (مثل الإشادة بموقف ما فقط عندما يتسق مع المصلحة العامة).

• ربط الأهداف الشخصية بالأهداف المؤسسية، فالنرجسي يسعى لتحقيق الإنجاز الفردي، ويمكن توظيف هذا الطموح لخدمة رؤية المؤسسة.

• مراقبة الأداء ضمن آليات تقييم شفافة، لضمان عدم استغلال السلطة أو التجاوز في الحقوق.

سادساً: التعامل المؤسساتي مع الشخصية النرجسية

على المؤسسات أن تدرك أن النرجسية ليست مجرد “سلوك غير محبب”، بل قد تكون اضطراباً يحتاج إلى إدارة خاصة. لذا من الضروري:

• تطبيق سياسات صارمة ضد السلوكيات التسلطية أو الاستغلالية

• توفير تدريبات دورية للموظفين حول كيفية التعامل مع الشخصيات الصعبة.

• تبني ثقافة مهنية قائمة على الشفافية والتعاون

• دمج أدوات التقييم النفسي السلوكي في عملية التوظيف لتجنب استقطاب الشخصيات السامة.

سابعاً: الفروق الدقيقة بين النرجسية الطبيعية والنرجسية المرضية

ليس كل شخص يُظهر ثقة بنفسه أو يسعى للتميز نرجسياً. الفرق الجوهري يكمن في مدى تأثير هذا السلوك على الآخرين وعلى مصلحة الجماعة. النرجسية المرضية تتميز بانعدام الضمير المهني، وتعمد إلحاق الأذى بالزملاء للحفاظ على صورة الذات.

ثامناً: جدول يوضح الفرق بين الشخصية النرجسية والزميل القيادي الواثق

تاسعاً: الجوانب الثقافية والاجتماعية في التعامل مع النرجسيين في بيئة العمل العربية

في المجتمعات العربية، قد تتداخل الشخصية النرجسية أحياناً مع مفاهيم مثل “القوة”، “القيادة”، أو “الحزم”، مما قد يصعب تمييزها. من الضروري الفصل بين الحزم الناضج والتسلط النرجسي. كما أن القيم الجماعية والروابط الشخصية في بيئات العمل العربية قد تجعل التعامل مع النرجسي أكثر حساسية، خاصة في المؤسسات التي تفتقر إلى هياكل واضحة للشكوى أو التقييم.

عاشراً: متى يصبح الانسحاب من بيئة العمل هو الحل الأنسب؟

رغم أهمية الصبر والتكيف، هناك حالات يكون فيها التعامل مع الشخصية النرجسية مرهقًا ومضرًا بالنفس لدرجة لا يُحتمل معها الاستمرار. من هذه الحالات:

• وجود تهديد مباشر على الصحة النفسية أو الجسدية.

• استمرار التجاوزات رغم التوثيق والشكوى.

• غياب استجابة إدارية فاعلة تجاه السلوكيات السامة.

في مثل هذه الظروف، فإن الانسحاب المهني المدروس يُعد خياراً شرعياً يحمي الكرامة والرفاه الشخصي.

المراجع

1. American Psychiatric Association. (2013). Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders (5th ed.).

2. Campbell, W. K., & Miller, J. D. (2011). The Handbook of Narcissism and Narcissistic Personality Disorder. Wiley.