كيف نتعامل مع المكفوف: منظور شامل للتعامل الإنساني والاجتماعي

إن التعامل مع الأشخاص المكفوفين ليس مجرد مسألة أخلاقية أو واجب اجتماعي، بل هو تعبير عن نضج المجتمع وإنسانيته وتقدّمه في احتواء جميع أفراده على اختلاف قدراتهم. فالكفيف، كأي فرد في المجتمع، يملك طاقات هائلة ومهارات متنوعة يمكن أن تسهم في دفع عجلة التنمية متى ما أُتيحت له البيئة المناسبة والدعم الكافي. ومن هنا تبرز أهمية التعامل السليم مع الأشخاص المكفوفين بطريقة تحفظ كرامتهم، وتُشعرهم بالانتماء، وتفتح لهم آفاق التفاعل والمشاركة الكاملة في الحياة الاجتماعية، التعليمية، والمهنية.

يستلزم هذا التعامل وعيًا عميقًا بالخصوصيات التي تميز تجربة المكفوفين في الحياة، وفهمًا سليمًا للحواجز النفسية والاجتماعية والمادية التي تعترض طريقهم. ولا يكون ذلك عبر الشفقة أو نظرات التعاطف السلبية، بل من خلال خلق بيئة دامجة تراعي الاحتياجات الخاصة وتعزز الاعتماد على الذات والاستقلالية.

الفهم الأساسي لطبيعة الإعاقة البصرية

الإعاقة البصرية ليست حالة واحدة، بل تتراوح بين ضعف البصر الجزئي والعمى الكامل. وتختلف احتياجات كل فرد بحسب حالته، وعمره، ودرجة استقلاليته، وتعليمه، وخبراته السابقة في الحياة. هذا التنوع يستدعي تعاملًا مرنًا يعتمد على التواصل الفعّال مع الشخص نفسه، وليس الافتراض المسبق لاحتياجاته.

الشخص الكفيف لا يفتقر إلى الذكاء، ولا يعاني من قصور ذهني، وإنما يحتاج إلى استخدام وسائل أخرى للإدراك، كاللمس والسمع والذاكرة الحسية واللفظية. كما أن الكفيف قد يمتلك مهارات تفوق أقرانه المبصرين في مجالات عديدة بفضل التركيز والانضباط العالي والتكيف المستمر مع تحديات الواقع.

المبادئ الأساسية للتعامل مع المكفوف

تُبنى العلاقة السليمة مع الشخص الكفيف على أسس إنسانية تراعي الكرامة والاحترام والمساواة، ومن أبرز هذه المبادئ:

1. الاحترام والتقدير

لا يجوز النظر إلى الشخص الكفيف على أنه عاجز أو محتاج إلى شفقة، بل يجب التعامل معه كشخص مستقل له حقوق كاملة. ينبغي احترام قراراته ومهاراته وعدم التحدث عنه بوجوده بصيغة الغائب، أو الافتراض بأنه غير قادر على فهم ما يدور حوله.

2. الاستئذان قبل المساعدة

من الشائع أن يُبادر الناس بعرض المساعدة على المكفوفين أو تقديمها دون إذن، بدافع النية الطيبة. لكن الأصح هو أن يُعرض عليه المساعدة بلطف، ويُحترم قراره بقبولها أو رفضها. فالكفيف قد يكون قد اعتاد على إنجاز مهامه بطريقة خاصة لا تتطلب تدخلًا خارجيًا.

3. طريقة التوجيه والتنقل

عند مرافقة شخص كفيف، يُفضل أن يُعرض عليه أن يمسك بذراع الشخص المرافق، لا أن يُمسك هو بذراع الكفيف. يجب أن يمشي المرافق نصف خطوة إلى الأمام حتى يتمكن الكفيف من إدراك تغيرات الطريق وتوجهاته.

كما يجب تنبيه الكفيف إلى العوائق مثل الدرج أو الأبواب أو الحفر، وتقديم وصف دقيق لطبيعة البيئة من حوله باستخدام الاتجاهات الواضحة والتفاصيل الحسية مثل الصوت والرائحة.

4. التواصل اللفظي

من الضروري أن يكون التواصل مع الشخص الكفيف واضحًا وشفافًا. استخدام الكلمات بدلاً من الإيماءات أمر جوهري. لا ضير في استخدام كلمات مثل “أنظر” أو “شاهد” فهي جزء طبيعي من اللغة ولا تُعد غير لائقة. الأهم هو وضوح المعنى وتجنب اللبس أو التلميحات غير الملموسة.

5. عدم تحريك أدواته الشخصية

الأدوات التي يستخدمها الكفيف مثل العصا البيضاء أو الأجهزة الإلكترونية المساعدة أو الكتب بطريقة برايل هي أدوات حساسة وقد تكون منظمة بطريقة تسهل عليه استخدامها. لا يجوز نقلها من مكانها أو العبث بها دون إذن، لأن ذلك قد يسبب له ارتباكًا أو ضررًا.

6. التهيئة البيئية المناسبة

البيئة المادية من أهم عوامل تمكين المكفوفين. يشمل ذلك وضع إشارات بارزة بطريقة برايل، توفير تطبيقات وأجهزة ناطقة، تنظيم المساحات العامة بحيث تكون خالية من العوائق، واعتماد إرشادات صوتية أو أرضية لتمكينهم من التنقل المستقل.

التعامل في البيئات المختلفة

1. في الأسرة

تشكّل الأسرة البيئة الأولى التي يتلقى فيها الطفل الكفيف دعمه النفسي والاجتماعي. يجب على الوالدين وأفراد العائلة التركيز على دمجه الكامل في الأنشطة اليومية وتعليمه المهارات الحياتية منذ الصغر. تجنب الإفراط في الحماية أمر بالغ الأهمية حتى لا تتعزز لديه مشاعر العجز أو الاعتماد على الغير.

ينبغي تشجيع الطفل الكفيف على استخدام حواسه الأخرى، والتفاعل مع محيطه، وتلقي التعليم المناسب باستخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة التي تعزز استقلاليته.

2. في المدرسة

المكفوفون لهم الحق الكامل في التعليم، ويجب تكييف المناهج والوسائل التعليمية لتتناسب مع قدراتهم. يجب تدريب المعلمين على التعامل معهم، واستخدام كتب بطريقة برايل، وتوفير أدوات ناطقة وتكبيرية، إضافة إلى تهيئة البيئة الصفية من حيث الإضاءة، والمقاعد، والمسارات الآمنة.

من المهم أيضًا تعزيز مشاركة الطلاب المكفوفين في الأنشطة المدرسية المختلفة، بما فيها الرياضة والمسرح والفنون، لأن ذلك يسهم في بناء شخصياتهم وصقل مهاراتهم الاجتماعية.

3. في سوق العمل

المكفوفون قادرون على العمل في مجالات متعددة مثل التعليم، المحاماة، البرمجة، الصحافة، الترجمة، والموسيقى. يجب على أصحاب العمل إدراك هذه الإمكانيات وتوفير بيئة عمل دامجة خالية من التمييز.

تسهيل الوصول إلى المعدات التكنولوجية المساعدة وتوفير التدريب المهني المناسب سيساهم في تعزيز استقلالية الكفيف وتحقيق طموحاته المهنية.

4. في الأماكن العامة

في الأماكن العامة، من الضروري توفير وسائل تيسير التنقل، مثل إشارات مرور صوتية، لوحات بطريقة برايل في المصاعد، تصميم أرصفة آمنة، وممرات مخصصة.

عند التعامل مع الكفيف في الأماكن العامة، يجب احترام خصوصيته وعدم التحديق فيه أو التحدث عنه أمامه وكأنه غير موجود. كما يجب تجنب التحدث بصوت مرتفع إلا إذا طلب هو ذلك.

أثر التكنولوجيا المساعدة على حياة المكفوفين

شهدت العقود الأخيرة تطورًا هائلًا في الوسائل التقنية التي تعزز قدرة المكفوفين على التعلم، العمل، والتفاعل الاجتماعي. من أبرز هذه الوسائل:

• قارئات الشاشة مثل JAWS وNVDA التي تحول النص المكتوب إلى صوت مسموع.

• برامج تحويل النص إلى برايل.

• تطبيقات الهاتف الذكي التي تقرأ النصوص، تحدد الاتجاهات، أو تتعرف على الألوان والأشياء من حول المستخدم.

• العصا الذكية المزودة بأجهزة استشعار للتنقل الآمن.

• الكتب الصوتية والمكتبات الرقمية التي تتيح الوصول إلى آلاف العناوين بدون الحاجة إلى النسخ الورقية.

هذا التقدم عزّز اندماج المكفوفين في المجتمع بصورة غير مسبوقة، مما يحتم على الجهات الحكومية والخاصة دعم هذه الأدوات وتوفيرها بشكل موسع.

دور الإعلام في تغيير الصورة النمطية

الإعلام مسؤول عن تقديم صورة واقعية وغير مشوهة للمكفوفين، بعيدًا عن النمطية التي تصورهم كضحايا دائمين أو عباقرة استثنائيين. يجب تسليط الضوء على تجاربهم الإنسانية، إنجازاتهم، صراعاتهم اليومية، وحقوقهم. البرامج التلفزيونية، الأفلام، والإعلانات يمكن أن تلعب دورًا كبيرًا في خلق وعي مجتمعي أكثر نضجًا وإنصافًا.

السياسات الحكومية والتشريعات

لا يمكن تحقيق الإدماج الكامل دون تدخل منظم من الدولة. وتشمل التدخلات المطلوبة:

• سنّ قوانين تحمي حقوق المكفوفين في التعليم والعمل والتنقل.

• فرض معايير إلزامية لتصميم المباني والطرقات والمؤسسات العامة بطريقة تيسيرية.

• تمويل الأبحاث العلمية التي تهدف إلى تطوير أدوات المساعدة البصرية.

• توفير التأمين الصحي والاجتماعي للأشخاص ذوي الإعاقة البصرية.

• دعم المبادرات المجتمعية والتوعوية التي تعزز الاندماج.

جدول يوضح الفروقات بين السلوك السليم وغير السليم في التعامل مع المكفوفين

الخاتمة

التعامل مع الأشخاص المكفوفين يتطلب وعيًا ثقافيًا، وتهذيبًا أخلاقيًا، وتطويرًا دائمًا للسياسات والمؤسسات. فالمكفوفون ليسوا عالة على المجتمع بل شركاء فيه، متى ما تم تمكينهم وتقديرهم بالشكل الصحيح. تغيير نظرتنا تجاههم يبدأ من إدراكنا بأن الكفيف لا يحتاج إلى شفقة، بل إلى مساواة، عدالة، واحتواء. فالمجتمع الذي يراعي احتياجات جميع أفراده دون تمييز هو المجتمع الذي يتقدّم حقًا نحو العدالة الإنسانية والتنمية المستدامة.

المصادر:

• منظمة الصحة العالمية – WHO.

• الاتحاد العربي للمكفوفين.