5 تغييرات ضرورية للاستمرار برحلة التخلص من الإدمان

رحلة التعافي من الإدمان ليست حدثاً لحظياً ولا قراراً عابراً، بل هي مسار طويل ومعقّد يتطلب الالتزام والاستعداد لتغييرات جذرية تمس كل أبعاد حياة الشخص. لا يكفي الامتناع عن التعاطي لفترة قصيرة ثم العودة إلى نفس البيئة والسلوكيات التي ساهمت في ترسيخ الإدمان، بل يجب تبني تغييرات شاملة ومستدامة تضمن الثبات والاستمرارية. فالإدمان، سواء أكان على المواد الكيميائية مثل المخدرات والكحول أو على السلوكيات مثل القمار أو الإنترنت، ينبع غالباً من اختلالات نفسية واجتماعية عميقة تتطلب معالجة جذرية.

في هذا السياق، تُعدّ بعض التغييرات محورية وحاسمة، لا غنى عنها لمن يسعى إلى التحرر الكامل من قبضة الإدمان. إليك خمسة تغييرات ضرورية ينبغي الالتزام بها لضمان الاستمرار في رحلة التعافي وبناء حياة صحية ومتوازنة خالية من التبعية والاعتماد.

1. إعادة هيكلة العلاقات الاجتماعية

من أهم وأصعب التغييرات التي ينبغي على المتعافي من الإدمان القيام بها هو إعادة النظر في محيطه الاجتماعي. فكثير من المدمنين ينحدرون من بيئات مشبعة بالتحفيزات السلبية التي تعزز السلوك الإدماني، سواء من خلال أصدقاء السوء أو علاقات قائمة على التواطؤ أو التجاهل.

التغيير هنا لا يقتصر فقط على الابتعاد عن الأشخاص الذين يشجعون على التعاطي، بل يشمل أيضاً بناء شبكة دعم جديدة تتكون من أشخاص إيجابيين، داعمين، ويشاركون قيم التعافي. وقد تشمل هذه الشبكة:

• مجموعات الدعم مثل “المدمنون المجهولون” أو “الكحوليّون المجهولون”.

• أفراد العائلة الذين يفهمون طبيعة الإدمان ويقدمون الدعم دون إصدار أحكام.

• معالجون نفسيون وأخصائيون اجتماعيون ذوو خبرة في مجال الإدمان.

وجود هذه البيئة الداعمة يشكل حصناً نفسياً واجتماعياً، ويساعد المتعافي على تخطي فترات الانتكاس المحتملة من خلال المشاركة والتواصل.

2. تبني نمط حياة صحي ومنظّم

الإدمان لا ينمو في بيئة صحية ومنظمة، بل يزدهر في الفوضى واللامسؤولية والروتين الفارغ. لهذا، فإن التحول إلى نمط حياة صحي ومتوازن يعتبر ضرورة حيوية. ويتجسد هذا التغيير في عدة مستويات:

• النوم المنتظم: لأن اضطراب النوم يؤدي إلى اضطراب الحالة النفسية ويزيد من احتمالية العودة للتعاطي.

• التغذية السليمة: تؤثر بشكل مباشر على كيمياء الدماغ، فالنقص في العناصر الغذائية مثل الأوميغا 3 والمغنيسيوم وفيتامينات B يؤثر سلباً على المزاج والتركيز.

• الرياضة: تعتبر وسيلة فعالة في إعادة التوازن للدوبامين والإندورفين في الدماغ، مما يقلل من الحاجة النفسية للمواد المسببة للإدمان.

• الروتين اليومي: جدولة اليوم بتوازن بين العمل، الراحة، والهوايات تُقلل من فرص الملل والفراغ الذي يقود إلى التفكير في العودة إلى السلوك الإدماني.

تبني هذا النمط يعزز من الشعور بالتحكم في الذات، ويمنح المتعافي شعوراً بالإنجاز والتقدير الذاتي المستمر.

3. إعادة بناء الهوية الذاتية والانفصال عن “الهوية الإدمانية”

المدمن السابق كثيراً ما يظل يحمل في داخله تصورات سلبية عن ذاته، مثل الشعور بالذنب، الخجل، والدونية. هذه المشاعر تتغذى على هوية مدمّرة رُسمت طوال سنوات من الاعتماد والتعاطي، وقد تُعيد الشخص إلى نقطة البداية إذا لم يتم تفكيكها بعناية.

لذلك، فإن إعادة بناء الهوية الذاتية تمثل محوراً مركزياً في عملية التعافي. ويمكن تحقيق هذا التغيير من خلال:

• المعالجة النفسية الفردية: بهدف التعامل مع المشاعر العالقة، والصدمة، وتجديد الصورة الذاتية.

• كتابة يوميات التعافي: حيث تُمكن الفرد من توثيق تقدّمه وإعادة قراءة ذاته بمنظور جديد.

• المشاركة المجتمعية والتطوع: وهي من الوسائل الفعالة لتجديد معنى الحياة والانخراط في سياقات إيجابية تمنح الفرد قيمة وتأثيراً.

كلما استطاع المتعافي أن يرى نفسه خارج إطار “المدمن السابق”، وكلما تمكن من بناء صورة جديدة لذاته كشخص قادر، مستقل، وناضج، زادت فرص الاستمرارية في رحلة التعافي.

4. معالجة الأسباب الجذرية للإدمان: الصدمات النفسية والعوامل النفسية العميقة

لا يمكن فهم الإدمان دون النظر إلى ما تحت السطح. فالإدمان غالباً ما يكون عرضاً لجرح أعمق لم يُعالَج: صدمات الطفولة، فقدان، إهمال، أو حتى اضطرابات نفسية غير مشخّصة كالاكتئاب، القلق، أو اضطراب الشخصية.

لذلك، فإن التعافي الحقيقي يتطلب الغوص في الجذور النفسية للإدمان، من خلال:

• العلاج السلوكي المعرفي (CBT): يركز على إعادة هيكلة الأفكار والمعتقدات السلبية.

• العلاج الجدلي السلوكي (DBT): مفيد خاصة لمن لديهم أنماط اندفاعية أو اضطرابات في الهوية.

• العلاج بالتعرض والتفريغ العاطفي (EMDR): مفيد لمن يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD).

هذه المعالجات لا تقتصر على مساعدة المتعافي في الامتناع عن التعاطي، بل تمنحه أدوات للتعامل مع مشاعره بطريقة صحية، دون الهروب منها باستخدام مواد أو سلوكيات تدميرية.

5. تبني بُعد روحي أو فلسفي يمنح الحياة معنى أعمق

العديد من برامج التعافي حول العالم، بما في ذلك “الخطوات الاثنا عشر”، تؤكد على أهمية البعد الروحي في رحلة التعافي. وهذا لا يعني بالضرورة الالتزام بدين معين، بل تبني فلسفة حياة تمنح الشخص إحساساً بالغاية والمعنى.

الروحانية، في هذا السياق، قد تشمل:

• التأمل واليقظة الذهنية (Mindfulness).

• الصلاة والدعاء والتسبيح.

• الانخراط في التأمل الصوفي أو الفلسفات الشرقية.

• استكشاف القيم العُليا في الحياة مثل العطاء، المحبة، الصدق، والتسامح.

وجود بُعد روحي يُعيد ترتيب الأولويات، ويمنح المتعافي قوة داخلية تعينه في لحظات الضعف. كما أنه يفتح الباب أمام تجربة وجودية عميقة، تشعره بالاتصال مع الكون والحياة بطريقة جديدة ومحررة.

جدول توضيحي للتغييرات وتأثيرها المتوقع في رحلة التعافي:

رحلة التعافي من الإدمان تتطلب أكثر من الامتناع، فهي إعادة بناء شاملة للإنسان في كافة جوانب حياته. هذه التغييرات الخمسة ليست مجرد نصائح نظرية، بل تمثل أركاناً حيوية للثبات والاستمرارية في طريق التحرر. فبقدر ما يواجه المتعافي التحديات الخارجية والداخلية، بقدر ما يجب أن يكون مستعداً لإحداث تحولات عميقة وحقيقية في حياته، تحولات لا تعيد فقط اتزانه، بل تعيد اكتشاف ذاته من جديد.

المراجع:

1. Gabor Maté, In the Realm of Hungry Ghosts: Close Encounters with Addiction, Vintage Canada, 2008.

2. American Psychological Association. (2020). Understanding addiction. Retrieved from: https://www.apa.org