التسعير الرجوعي وسيلتك لبناء مشروع تجاري قادر على الصمود

مقدمة

في عالم يشهد تغيرات مستمرة في سلوك المستهلكين والتوجهات الاقتصادية، يصبح لزامًا على رواد الأعمال وأصحاب المشاريع البحث عن أدوات واستراتيجيات تضمن بقاء مشاريعهم واستمراريتها. من بين هذه الأدوات الحيوية، يبرز “التسعير الرجوعي” أو التسعير المرتكز على القيمة، كأحد النماذج التسعيرية التي تجمع بين البعد الاستراتيجي والتحليل السلوكي، ما يتيح للمشاريع التجارية أن تتفاعل بذكاء مع السوق، وتبني نماذج عمل قادرة على الصمود في وجه التحديات الاقتصادية.

مفهوم التسعير الرجوعي

يُعرف التسعير الرجوعي (Backwards Pricing) بأنه منهجية تسعيرية تعتمد على تحديد السعر النهائي الذي يكون المستهلك مستعدًا لدفعه مقابل منتج أو خدمة، ثم الرجوع إلى الخلف لحساب التكلفة التي تضمن هوامش ربح معقولة. على عكس النماذج التقليدية التي تبدأ بحساب التكلفة ثم تضيف الهامش الربحي، ينطلق التسعير الرجوعي من القيمة المدركة لدى العميل، ويتحرك نحو الخلف لتكييف النموذج التشغيلي وتكاليف الإنتاج بما يتناسب مع هذا السعر.

الفلسفة الكامنة وراء التسعير الرجوعي

تعتمد الفكرة الأساسية لهذا النموذج على تغيير وجهة النظر التقليدية للتسعير. فبدلاً من الانطلاق من الداخل (التكلفة) والانتهاء عند السوق، يبدأ التسعير الرجوعي من السوق (الطلب) ويعود إلى الداخل. هذا النموذج يُمكّن الشركات من فهم السوق بعمق، وتوجيه عملياتها الإنتاجية واللوجستية بما يتماشى مع الحد الأقصى للسعر الذي يقبله المستهلك.

الفلسفة هنا تركز على أن العميل لا يهتم بتفاصيل التكلفة بقدر ما يهتم بما إذا كان المنتج أو الخدمة تستحق السعر المطلوب. ومن هذا المنطلق، يصبح فهم ما يُشكّل “القيمة” بالنسبة للمستهلك هو حجر الأساس لبناء استراتيجية تسعيرية فعالة.

الفرق بين التسعير التقليدي والتسعير الرجوعي

متى يكون التسعير الرجوعي مناسبًا؟

يصبح التسعير الرجوعي الخيار الأمثل في الحالات التالية:

1. الأسواق الحساسة للسعر: حيث يتوجب على الشركة ضبط تكاليفها لتقديم المنتج بسعر معقول للمستهلك.

2. المنافسة الشديدة: في حال كانت هناك عدة بدائل متاحة، يجب أن تكون الأسعار جذابة دون المساس بالجودة.

3. عند استهداف أسواق جديدة: فهم حدود الأسعار التي يقبلها المستهلك يساهم في اختراق الأسواق بفعالية.

4. تقديم منتج جديد: عندما لا يكون هناك مرجع تسعيري سابق، يساعد هذا النموذج على بناء تسعير منطقي من منظور المستهلك.

5. عند تذبذب المواد الخام: يمكن تعديل النموذج التشغيلي بما يضمن الحفاظ على سعر مستقر للمستهلك.

أهمية التسعير الرجوعي في بناء مشاريع قادرة على الصمود

1. مواءمة السوق والقدرة الشرائية

من خلال تحديد السعر من وجهة نظر السوق، يضمن هذا النموذج قدرة المشروع على تقديم منتجات تلائم الإمكانات الشرائية للعملاء. وهذا يجعل المشروع أكثر قدرة على الاستمرار في ظروف اقتصادية متغيرة، خصوصًا في الأسواق ذات الدخل المتوسط أو المنخفض.

2. تعزيز كفاءة سلسلة الإمداد

يساعد هذا النموذج في دفع الشركات إلى التفكير بكفاءة في كل مرحلة من مراحل سلسلة القيمة، من الإنتاج إلى التوزيع. فلكي تحقّق هوامش ربح جيدة عند سعر محدد مسبقًا، يتطلب الأمر تحسينًا مستمرًا في العمليات وتقليل الفاقد.

3. المرونة في مواجهة الأزمات

عند حدوث أزمات اقتصادية أو تضخم، يبقى المشروع الذي يعتمد على التسعير الرجوعي أكثر قدرة على ضبط تكاليفه بما يتلاءم مع القدرة الشرائية للعملاء، دون التضحية بجودة المنتج أو بالخروج من السوق.

4. التحفيز على الابتكار

بما أن التسعير يبدأ من القيمة المتوقعة لدى المستهلك، يدفع هذا النموذج فرق التطوير والإنتاج إلى ابتكار طرق جديدة لتقديم نفس القيمة بتكلفة أقل، ما يؤدي إلى خلق نماذج أعمال أكثر كفاءة واستدامة.

خطوات تطبيق نموذج التسعير الرجوعي

1. تحليل السوق وفهم المستهلك
   
   الخطوة الأولى هي تحليل سلوك المستهلك وتحديد السعر الأقصى الذي يكون مستعدًا لدفعه مقابل المنتج أو الخدمة. يتم ذلك من خلال الدراسات التسويقية، الاستبيانات، المقابلات، وتحليل المنافسين.

2. تحديد السعر المستهدف
   
   بعد دراسة السوق، يتم تحديد السعر النهائي الذي يجب أن يُعرض به المنتج، ويؤدي إلى حجم مبيعات مستدام يضمن النمو.

3. تحديد الهامش الربحي المستهدف
   
   يجب تحديد الهامش المقبول الذي يسمح باستمرارية المشروع دون خسارة. هذا الهامش يجب أن يكون مرنًا حسب السوق.

4. العمل على تقليص التكاليف التشغيلية
   
   تبدأ بعدها عملية تعديل سلسلة التوريد، الإنتاج، التغليف، الشحن وغيرها لتناسب السعر الذي تم تحديده مسبقًا، مع الحفاظ على الجودة الجوهرية للمنتج.

5. اختبار السوق وضبط النموذج
   
   قبل التوسع في الإنتاج، يتم اختبار السعر مع شرائح مستهدفة من العملاء للتأكد من واقعيته وقبوله، ثم يتم التعديل وفقًا للبيانات.

تطبيقات عملية لنموذج التسعير الرجوعي

شركات المنتجات الاستهلاكية

تعتمد كبرى الشركات مثل “Unilever” و”Nestlé” على نموذج التسعير الرجوعي عند دخولها لأسواق الدول النامية. فهي تبدأ بتحليل السوق لتحديد السعر الأمثل، ثم تقوم بتعديل وصفات المنتجات والتغليف بما يتناسب مع التكلفة.

الصناعات التقنية

تلجأ بعض الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا إلى التسعير الرجوعي، خاصة عند تقديم تطبيقات أو منصات رقمية، حيث يتم تحديد الاشتراك الشهري بناءً على ما يمكن أن يدفعه العميل المستهدف، ثم تصميم خصائص المنتج بناءً على هذا السعر.

خدمات الاشتراك

خدمات مثل “Spotify” أو “Netflix” بدأت بتسعير شهري محدد تم دراسته بعناية وفقًا لما يقبله المستخدم العادي في الأسواق المستهدفة، ثم بنيت هيكلها التشغيلي بما يتناسب مع هذه القيمة.

التحديات المحتملة في تطبيق التسعير الرجوعي

• صعوبة خفض التكاليف دون التأثير على الجودة
  
  يتطلب الأمر إدارة عالية الكفاءة للموارد، واستخدام تكنولوجيا حديثة لإبقاء التكاليف ضمن الحدود المطلوبة.

• التنبؤ الخاطئ بالسعر المقبول
  
  إذا لم يتم تحليل السوق بدقة، فقد يتم تحديد سعر منخفض لا يغطي التكاليف، مما يؤدي إلى خسائر.

• التغير السريع في أسعار المواد الخام
  
  يجعل من الصعب الحفاظ على تكلفة إنتاج منخفضة إلا إذا كان لدى الشركة سلاسل توريد مرنة وفعالة.

• عدم مرونة بعض القطاعات
  
  في بعض الصناعات، مثل الصناعات الثقيلة أو الدوائية، يكون خفض التكلفة أمرًا صعبًا، ما يقلل من فاعلية هذا النموذج.

نصائح لضمان نجاح نموذج التسعير الرجوعي

• استخدام تقنيات تحليل البيانات: من خلال تحليل سلوك العملاء والشراء عبر أدوات رقمية يمكن الحصول على معلومات دقيقة تساعد في تحديد السعر المقبول.

• الاعتماد على الإنتاج المرن: من خلال خطوط إنتاج قابلة للتعديل حسب الحاجة، يصبح من السهل التكيف مع المتطلبات الجديدة.

• التفاوض مع الموردين: التفاوض الجيد يمكن أن يساهم في خفض تكاليف المواد الخام، مما يسمح بالوصول إلى السعر المستهدف.

• بناء شبكة لوجستية مرنة: عبر تقليل الوسطاء واعتماد حلول ذكية للتوزيع، يمكن تقليل التكاليف وتحقيق الاستدامة.

الخاتمة

يمثل التسعير الرجوعي نموذجًا استراتيجيًا فاعلًا يساعد على بناء مشاريع تجارية ليست فقط قادرة على الاستمرار، بل أيضًا على التكيّف مع متغيرات السوق والبقاء في حالة تنافسية عالية. إنه نموذج لا يركّز على ما تريد الشركة تحقيقه من أرباح فقط، بل يبدأ مما يراه العميل ذا قيمة. وهو ما يجعل هذا النموذج أساسًا راسخًا لأي مشروع يسعى إلى التوسع والبقاء ضمن أسواق مليئة بالتحديات والفرص في آن واحد.

المراجع:

1. Nagle, Thomas T., & Müller, Georg (2017). The Strategy and Tactics of Pricing. Routledge.

2. Kotler, Philip, & Keller, Kevin Lane (2015). Marketing Management. Pearson Education.