التأثير والإرادة: سر النجاح

ليس العاجز عن التأثير إلا من يريد أن يبقى عاجزاً

في مسيرة الحياة، كثيرًا ما نواجه مواقف تتطلب منا التأثير في محيطنا، سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي أو المهني. التأثير هو القدرة على إحداث تغيير أو إلهام أو دفع الآخرين نحو فعل شيء معين، وهو مهارة أو حالة يكتسبها الإنسان أو يطورها مع مرور الزمن. لكن هناك حقيقة جوهرية لا يمكن إنكارها، وهي أن العجز عن التأثير لا يكون في الأصل بسبب نقص في القدرات أو الفرص، وإنما غالبًا يكون نتيجة اختيار ذاتي أو حالة نفسية داخلية تجعل الإنسان يختار البقاء عاجزًا، أو بمعنى أدق، يرفض أو يمتنع عن استخدام إمكانياته للتأثير.

هذا المفهوم يحمل في طياته عمقًا نفسيًا واجتماعيًا كبيرًا، إذ يشير إلى أن الكثير من الذين يشعرون بالعجز في واقعهم ليسوا بالفعل عاجزين، وإنما ربما هم يختارون البقاء في هذه الحالة، سواء بدافع الخوف، أو الإحباط، أو حتى الكسل. وهو أمر يستحق التأمل والتحليل، خاصة في عالمنا اليوم الذي يعج بالتحديات التي تتطلب منا جميعًا أن نكون فاعلين ومؤثرين.

مفهوم العجز والاختيار

العجز هو حالة شعورية أو فعلية تظهر عندما يواجه الإنسان صعوبة أو عائقًا يمنعه من تحقيق أهدافه أو التأثير في بيئته. إلا أن هذا العجز لا يعني دائمًا غياب القدرة. فالكثير من الناس يمتلكون إمكانيات هائلة، سواء في الفكر أو العاطفة أو القوة البدنية، إلا أنهم يفتقدون الإرادة أو الحافز لاستخدامها. وهنا يأتي دور الاختيار، إذ يمكن للشخص أن يقرر أن يبقى ساكنًا، غير متحرك، غير مبادر، أو يمكنه أن يقرر أن يحطم القيود التي تمنعه من التأثير.

الأدلة النفسية تشير إلى أن العقل البشري يمكن أن يبرر حالة العجز أو الضعف بعدة طرق منها: الخوف من الفشل، القلق من التغيير، فقدان الثقة بالنفس، أو التعود على الراحة في منطقة الأمان. كلها أسباب تجعل الشخص يختار أن يبقى في مكانه بدلاً من أن يحاول ويخاطر.

العوامل النفسية التي تدفع الإنسان إلى اختيار العجز

• الخوف من الفشل: هو واحد من أقوى المشاعر التي تعيق التحرك والتغيير. يفضل البعض العجز على مواجهة احتمال الفشل، لأن الفشل يترافق مع ألم نفسي واجتماعي.

• انعدام الثقة بالنفس: عندما يفقد الإنسان ثقته في قدراته، فإنه يشعر بأنه غير قادر على التأثير، مما يدفعه للانسحاب والابتعاد عن أي محاولة للتغيير.

• التكيف مع الواقع السلبي: أحيانًا يصبح الإنسان متكيفًا مع وضعه السلبي لدرجة أن التغيير يصبح عبئًا نفسيًا، فيختار البقاء في دائرة العجز بدلاً من مواجهة المجهول.

• الإحباط المتكرر: تراكم الإخفاقات دون معالجة أو تعلم قد يجعل الإنسان يستسلم ويعتقد أنه عاجز فعلاً.

• الكسل والاعتماد على الآخرين: قد يكون بعض الناس معتادين على التبعية أو الاعتماد على الغير في اتخاذ القرارات، مما يحد من قدرتهم على التأثير.

التأثير كمهارة قابلة للتعلم

التأثير ليس مجرد موهبة فطرية، بل هو مهارة يمكن تعلمها وتطويرها. يبدأ ذلك بفهم الذات والوعي بالقدرات التي يمتلكها الإنسان، ثم بناء الثقة بالنفس من خلال التجربة والممارسة. يمكن لأي شخص أن يكتسب هذه المهارة عبر خطوات محددة:

• تطوير التواصل الفعال: القدرة على التعبير عن الأفكار بوضوح والاستماع للآخرين.

• القدرة على الإقناع: من خلال تقديم الحجج المنطقية والعاطفية التي تؤثر في قرارات الآخرين.

• العمل على بناء شبكة علاقات قوية: العلاقات الاجتماعية والتواصل المستمر مع الآخرين يعزز من قدرة الفرد على التأثير.

• التحفيز الذاتي: تحفيز النفس للثبات على المواقف الإيجابية ومواجهة التحديات.

• التعلم المستمر: الاطلاع على المعارف الحديثة وتطوير المهارات الشخصية.

دور الإرادة والتصميم في تجاوز العجز

الاختيار الحقيقي للبقاء عاجزًا أو للتحرك والتأثير هو نابع من قوة الإرادة. الإرادة هي المحرك الداخلي الذي يدفع الإنسان إلى كسر القيود النفسية والاجتماعية التي تحاصره. الشخص الذي يمتلك إرادة قوية يستطيع أن يحول العجز إلى فرص، ويحول التحديات إلى نجاحات. الإرادة تعمل كالجسر الذي يربط بين الإمكانات والنتائج.

وفي هذا السياق، لا بد من التأكيد على أن الإرادة ليست مجرد رغبة عابرة، بل هي التزام عميق يتطلب صبرًا ومثابرة. لأن التأثير الحقيقي لا يأتي من المحاولات السطحية أو المؤقتة، بل من الجهد المستمر والتعلم من الأخطاء.

العجز في سياق المجتمع والتأثير الجماعي

ليس العجز مسألة فردية فقط، بل هو أيضًا ظاهرة اجتماعية. المجتمعات التي تتسم بالجمود أو الخوف من التغيير، أو التي تفتقد للثقة بين أفرادها، تنتج حالة من العجز الجماعي. هذا العجز يجعل المجتمع بأكمله غير قادر على التأثير في محيطه أو التقدم نحو مستقبل أفضل.

عندما يختار الأفراد والعائلات والمؤسسات البقاء في حالة من الركود والجمود، فإنهم يسهمون في تعميق حالة العجز التي تعاني منها مجتمعاتهم. بالمقابل، المجتمعات التي تشجع على المبادرة والإبداع وتحفز على بناء القدرات تشهد تقدمًا ملحوظًا في مختلف المجالات.

أثر الإعلام ووسائل التواصل على الشعور بالعجز أو التأثير

في العصر الرقمي، تلعب وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي دورًا كبيرًا في تشكيل شعور الفرد بقدرته على التأثير. من جهة، توفر هذه المنصات فرصًا هائلة للتواصل والتعبير والتأثير، إذ يمكن لأي شخص أن ينشر أفكاره ويصل بها إلى جمهور واسع.

لكن من جهة أخرى، يمكن أن تخلق هذه الوسائل حالة من الإحباط أو الشعور بالعجز، خاصة إذا كانت تؤدي إلى مقارنة مستمرة مع إنجازات الآخرين أو غرق في أخبار سلبية مستمرة. لذلك، يصبح التعامل الواعي مع هذه الوسائل ضرورة للحفاظ على الشعور بالتمكين وعدم الاستسلام للعجز.

العجز والنجاح: العلاقة المتناقضة

من المثير للاهتمام أن نلاحظ العلاقة المتناقضة بين العجز والنجاح. فغالبًا ما يكون الناجحون هم الذين رفضوا أن يكونوا عاجزين، وقرروا أن يكونوا فاعلين ومؤثرين رغم الصعوبات. هم من استثمروا قوتهم الداخلية لإحداث فرق، وهم من لم يرضوا بالجمود أو الاستسلام.

في المقابل، كثير من الذين شعروا بالعجز لفترات طويلة لم يتمكنوا من الوصول إلى ما يرغبون فيه. العجز إذًا لا يعني فقط التوقف عن العمل، بل هو في جوهره توقف عن المحاولة، واختيار البقاء تحت سطوة المبررات النفسية والاجتماعية.

أهمية تنمية الوعي الذاتي في مواجهة العجز

الوعي الذاتي هو مفتاح رئيسي في مواجهة حالة العجز. الإنسان الذي يدرك نقاط قوته وضعفه يستطيع أن يخطط بشكل أفضل لاستخدام طاقاته في التأثير. الوعي يسمح للفرد بفهم سبب اختياره للبقاء في حالة العجز، ومعالجة الأسباب التي تقف في طريقه.

من خلال الوعي الذاتي، يمكن تحويل الأفكار السلبية إلى إيجابية، وتحويل الشعور بالعجز إلى دافع للتغيير. هذا التحول هو الأساس الذي يبني عليه الإنسان قدرته على التأثير الحقيقي في حياته ومحيطه.

الخلاصة

العجز عن التأثير ليس حالة مفروضة أو حتمية، بل هو خيار يمكن للإنسان أن يتخذه أو يرفضه. الشخص الذي يختار أن يبقى عاجزًا، إما بسبب خوف أو إحباط أو عدم ثقة أو تكاسل، هو من يحكم على نفسه بالبقاء في هذه الحالة. لكن القدرة على التأثير موجودة في كل فرد، وتظهر عندما يتم تنشيط الإرادة، وتعزيز الوعي، وتطوير المهارات اللازمة.

إن فهم هذا المفهوم يجعلنا ننظر إلى العجز ليس كعائق ثابت، بل كحالة مؤقتة يمكن تجاوزها. بذلك، تتحول حياة الإنسان من حالة استسلام إلى حالة فاعلية، وتصبح بيئته أكثر حيوية وتأثيرًا، مما يعزز التنمية الشخصية والمجتمعية على حد سواء.