الافتراش والتورك في الصلاة

مفهوم الافتراش والتورك في الصلاة: دراسة فقهية موسعة

يُعدُّ التفصيل في هيئة الجلوس أثناء الصلاة من المواضيع التي نالت عناية كبيرة في الفقه الإسلامي، ذلك لما لها من أثر في تحقيق السنة والإقتداء بهدي النبي ﷺ، كما أن لهذه الهيئة دلالة على تمام الخشوع والانقياد، وقد وردت في شأنها روايات عديدة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أظهرت تنوعًا مقصودًا، لا يخرج عن سنن ثابتة لها دلالات دقيقة. من بين هذه الهيئات يبرز مفهومان أساسيان هما: الافتراش والتورك، وهما من السنن القولية والفعلية التي حرص الفقهاء على توضيحها وتحديد مواضعها في الصلاة.

أولاً: مفهوم الافتراش

تعريف الافتراش

الافتراش لغةً مأخوذ من الفَرْش، وهو بَسْط الشيء على الأرض. وشرعاً هو: جلوس المصلي على رجله اليسرى مفترشًا إياها، وينصب اليمنى بحيث تكون أطراف الأصابع متجهة نحو القبلة. وتكون اليدان على الفخذين أو الركبتين حسب الهيئة التي وردت بها الأحاديث.

موضع الافتراش في الصلاة

الافتراش هو الهيئة الغالبة للجلوس بين السجدتين، وفي التشهد الأول في الصلاة التي فيها تشهدان. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفتَرِشُ رجله اليسرى، وينصب اليمنى، كما في حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه:

“كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الصلاة افترش رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في التشهد الأخير، قدم رجله اليسرى ونصب اليمنى وجلس على مقعدته.”

(رواه البخاري).

ومن هنا يتضح أن هيئة الافتراش مأخوذة من فعل النبي ﷺ في غالب صلاته، باستثناء مواضع مخصوصة يأتي فيها التورك.

الحكمة من الافتراش

تتمثل الحكمة في هذه الهيئة في التوسط بين الاستراحة التامة والخشوع، فهي تُظهر انقياد الجسد وإذعان النفس، كما تحقق توازناً جسدياً للمصلي، وتُسهل عليه التنقل بين الأركان، خصوصًا للذين يكثرون من الصلاة أو أصحاب الأعذار.

ثانيًا: مفهوم التورك

تعريف التورك

التورك لغة مأخوذ من “الورك”، ويقال تورّك إذا جلس على وركه. أما في الاصطلاح الشرعي، فالتورك هو: أن يخرج المصلي رجله اليسرى من تحت ساقه اليمنى، فيجعل وركه الأيسر على الأرض، ويُخرج قدميه الاثنتين من جهة واحدة — عادةً من جهة اليمين — ويجلس على الأرض مباشرةً، مع نصب الرجل اليمنى أو مدها.

موضع التورك في الصلاة

التورك يكون في التشهد الأخير من الصلاة التي فيها أكثر من تشهد، أي في الصلاة الثلاثية أو الرباعية. فيجلس المصلي بالتورك في الركعة الأخيرة، وذلك بعد قراءة التشهد والصلاة الإبراهيمية، قبل التسليم مباشرةً. وقد ثبت هذا في أحاديث صحيحة، منها ما رواه البخاري عن أبي حميد الساعدي، وفيه:

“فإذا كانت الركعة التي فيها التسليم، أخرج رجله اليسرى وجلس متوركاً على شقه الأيسر، ثم سلم.”

وهذا دليل صريح على تمييز هيئة الجلوس في التشهد الأخير عما سواه من الجلسات، مما يحقق سنية التورك في هذا الموضع.

الحكمة من التورك

يرى بعض العلماء أن التورك يُشعر بختم الصلاة، وفيه دلالة على الطمأنينة والتثبت، إذ إن المصلي لا يقوم بعده إلى ركعة أخرى. وله كذلك دلالة على عظم شأن التشهد الأخير؛ فهو يتضمن تحيات لله، والشهادة، والصلاة على النبي ﷺ، والدعاء، ثم التسليم، ما يجعله محطة ختامية ينبغي الاعتناء بها في الهيئة والمضمون.

ثالثًا: الخلاف الفقهي بين المذاهب في الافتراش والتورك

تناولت المذاهب الفقهية الأربعة مسألة الافتراش والتورك بتفصيل دقيق، وانقسموا في بعض المواضع، خاصةً في هيئة الجلوس في التشهدات، وسنوضح ذلك في الجدول التالي:

يتبين أن جمهور الفقهاء على اعتبار التورك سنة في التشهد الأخير من الصلاة التي تتعدد ركعاتها، بينما الافتراش يكون في سائر المواضع، وهذا مبني على تتبع الأحاديث النبوية التي روت هيئة جلوس النبي ﷺ في صلاته.

رابعًا: تطبيق السنة في الصلاة وعدم الجمود على هيئة واحدة

من الملاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلتزم بهيئة واحدة في جميع صلواته، بل نوّع بين الافتراش والتورك في مواضع مختلفة، وهذا التنوع يُشرع للاقتداء به، وهو مما يدل على سعة الشريعة، وتيسيرها لأحوال الناس المختلفة، فربما يكون الافتراش أيسر لبعضهم، ويكون التورك أيسر لآخرين.

قال الإمام النووي رحمه الله:

“وينبغي للمصلي أن يفعل كل هيئة ثبتت في السنة أحياناً، ليحصل له فضل اتباع السنة كلها.”

وهذا يعكس فقه التنوع، وهو أصل عظيم في باب السنن القولية والفعلية.

خامسًا: الوضع الفقهي للمريض في تطبيق الافتراش والتورك

إذا كان المصلي عاجزًا عن الجلوس على هيئة الافتراش أو التورك بسبب مرض أو تقدم في السن أو إصابة، فإن الشريعة الإسلامية راعت حاله، وأجازت له أن يجلس كيفما يستطيع. ولا يُكلّف الله نفسًا إلا وسعها، فتصح صلاته ولو جلس جلسةً غير مألوفة، بل تصح صلاته وهو على كرسي أو حتى إيماءً برأسه إذا عجز عن الجلوس كليًا.

وهذا من رحمة الشريعة وتيسيرها، فلا تسقط السنن المؤكدة ولا تفسد الصلاة بسبب عدم القدرة على تطبيق هيئة الافتراش أو التورك.

سادسًا: أبعاد تربوية وروحية في هيئات الجلوس في الصلاة

ليست الهيئة الشكلية في الصلاة أمرًا عابرًا أو شكليًا محضًا، بل تعكس معاني تربوية عميقة، منها:

• الخضوع التام لله عز وجل: فجلوس المصلي على الأرض مفترشًا أو متوركًا، يُظهر تذلله وافتقاره إلى ربه.

• التأسي بالنبي ﷺ: وهو مقصد تشريعي كبير، لأن سنته ﷺ ليست فقط قولية، بل فعلية أيضًا.

• تحقيق الخشوع الجسدي: الذي يؤدي إلى استحضار عظمة الموقف، فالوقوف والركوع والسجود والجلوس، كلها تصب في إطار الطاعة والخضوع.

• الانضباط في العبادة: وتعلّم كيفية التزام السنن في أبسط حركات الصلاة، مما يُرسّخ مفاهيم الانضباط والاتباع في سلوك المسلم.

سابعًا: الافتراش والتورك في الصلاة عند النساء

أورد بعض العلماء رأيًا يُميّز بين جلوس الرجل والمرأة في الصلاة، فقالوا إن المرأة تُفترض أن تجلس بشكلٍ أكثر ستراً واحتشامًا، فلا تفتَرِش ولا تتورك، بل تضم قدميها وتجلس مائلة على أحد جنبيها، تفاديًا لإبراز مفاتن الجسد. وهو ما يُعرف بـ”التربع” أو “الاحتباء”.

لكن هذا التفصيل ليس محل إجماع، فقد ذهب بعض العلماء إلى أن المرأة مثل الرجل في هيئة الجلوس، مالم يؤد ذلك إلى مخالفة أدب الحياء.

ثامنًا: الآثار المترتبة على مخالفة هيئة الجلوس في الصلاة

إن هيئة الجلوس بين الافتراش والتورك تدخل ضمن السنن الفعلية، فمخالفتها لا تُبطل الصلاة عند جمهور العلماء، لكنها تُفوّت الأجر وتضعف كمال الصلاة.

وقد حرص السلف على الالتزام بهيئات الصلاة كما نقلت عن النبي ﷺ، وكانوا يعدون ذلك من علامات الاقتداء الكامل به، ويحثّون الناس على عدم التفريط فيها.

خاتمة تنظيمية

إن فهم هيئة الجلوس في الصلاة من خلال الافتراش والتورك هو جزء من تعظيم الشعائر التي أمر الله بها، وهو مظهر من مظاهر التطبيق العملي لسنة النبي ﷺ. وقد دلّت النصوص الصحيحة، وأقوال الأئمة المجتهدين، على أهمية تمييز كل هيئة بمكانها وزمانها داخل الصلاة، مع الاعتبار التام لحال المصلي وقدرته، وتحقيقًا للمقاصد الشرعية من الخشوع والانقياد الكامل لله تعالى.

المراجع

1. الفقه الإسلامي وأدلته، وهبة الزحيلي

2. شرح النووي على صحيح مسلم