الاستدلال بشرع من قبلنا: دراسة أصولية تحليلية معمّقة
يُعدّ موضوع “الاستدلال بشرع من قبلنا” من أبرز المسائل الأصولية التي أثارت جدلًا واسعًا بين العلماء والفقهاء، لِما يتعلّق به من مباحث دقيقة تتداخل فيها النصوص الشرعية مع مبادئ الناسخ والمنسوخ، والتفريق بين ما هو شرع للأمم السابقة وبين ما هو شرع للأمة المحمدية. ويكتسب هذا الموضوع أهمية خاصة لكونه يتعلق بطريقة استنباط الأحكام الشرعية واستيعابنا لطبيعة الشريعة الإسلامية في علاقتها مع الشرائع السابقة.
في هذا المقال، سيتم تحليل هذه القضية من خلال تتبع أقوال العلماء، وضبط المفاهيم، واستعراض الأمثلة التطبيقية من القرآن الكريم والسنة النبوية، مع تتبع الأدلة والتفصيلات المتفرعة عنها، في ضوء قواعد أصول الفقه وقواعد التشريع الإسلامي.
أولًا: تعريف شرع من قبلنا
شرع من قبلنا هو ما ورد في القرآن الكريم أو السنة النبوية من أخبار عن شرائع الأمم السابقة، سواء كانت تتعلق بالأوامر والنواهي، أو بعقوبات وتشريعات وأحكام خاصة بتلك الأمم، كشرع بني إسرائيل أو شريعة موسى أو عيسى عليهما السلام. وقد تكون هذه الشرائع موافقة لشرعنا أو مخالفة له أو لم يُبيّن حكمها في شريعتنا.
ويمثّل هذا المفهوم أحد مجالات الاجتهاد في فهم الأحكام الشرعية، وخصوصًا عند النظر في القصص القرآني وأحكام التوراة والإنجيل الواردة ضمن النصوص الإسلامية.
ثانيًا: تقسيم شرع من قبلنا بحسب موقف الشريعة الإسلامية منه
لقد اتفق الأصوليون على تقسيم شرع من قبلنا إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
1. ما ورد في شرع من قبلنا وجاء شرعنا بموافقته
كأمر الصلاة والصيام، فهذه عبادات كانت موجودة في الشرائع السابقة وأقرت في الشريعة الإسلامية. مثال ذلك قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: 183]
هذا القسم محل اتفاق على اعتباره شرعًا لنا أيضًا، وذلك لأن شريعتنا أقرت هذه الأحكام صراحة.
2. ما ورد في شرع من قبلنا وجاء شرعنا بمخالفته أو نسخه
كالأحكام المتعلقة بالطهارة أو الحلال والحرام التي تختلف عن شريعتنا. مثال ذلك تحريم بعض اللحوم على بني إسرائيل دون المسلمين، كما قال تعالى:
﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ [الأنعام: 146]
فمثل هذا لا يعتبر شرعًا لنا، بل يُعد من الخصوصيات التي لا يُستدل بها في أحكامنا.
3. ما ورد في شرع من قبلنا ولم يأتِ شرعنا بموافقته ولا بمخالفته
وهذا هو محل الخلاف الأصولي، ويُعدّ صلب بحثنا، حيث وقع الاختلاف حول مشروعية الاستدلال به.
ثالثًا: أقوال العلماء في الاستدلال بشرع من قبلنا
القول الأول: أنه شرع لنا ما لم يرد في شريعتنا ما يخالفه
وهذا مذهب جمهور الحنفية وبعض الشافعية والمالكية. واستدلوا على ذلك بعدة أدلة، منها:
-
أن الله أمر النبي ﷺ باتباع ملة إبراهيم، كما في قوله تعالى:
﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ [النحل: 123]
-
وقوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90]
قالوا: هذا دليل على أن شرعهم شرع لنا ما لم يرد ناسخ.
القول الثاني: أنه ليس بشرع لنا إلا إذا ورد في شرعنا ما يقرّه
وهذا مذهب جمهور المالكية وبعض الشافعية والظاهرية، قالوا إن شرع من قبلنا ليس بحجة علينا إلا إذا أقره الشرع الإسلامي، لأن شريعتنا ناسخة لما قبلها، وقد قال تعالى:
﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة: 48]
-
أي أن القرآن مهيمن بمعنى أنه شاهد ومصدق ومهيمن على باقي الشرائع، وبالتالي لا يُعتبر شرعهم حجة ما لم يقره الإسلام.
القول الثالث: التفصيل بين الأحكام
وهو قول بعض المحققين، حيث فرقوا بين ما كان من قبيل العبادات وما كان من المعاملات، وما يندرج في باب الأخبار التاريخية وما له طابع تشريعي. وقد ذهب بعضهم إلى أن الأحكام التي وردت على لسان النبي ﷺ وهي من شرع من قبلنا، تكون حجة لأنها جاءت عن طريق الوحي الإسلامي، لا باعتبارها من شريعة سابقة.
رابعًا: التطبيق العملي في فقه الاستدلال بشرع من قبلنا
1. القصاص وشرعه في الأمم السابقة
ورد في التوراة والإنجيل كثير من أحكام القصاص، وقد جاء الإسلام بتقرير مبدأ القصاص، كما في قوله تعالى:
﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة: 179]
فهذا يُعدّ من الشرائع التي وافق فيها الإسلام شريعة سابقة.
2. رجم الزاني المحصن
اختلف العلماء هل ثبت حكم الرجم لأنه من شريعة موسى وأُقر في الإسلام، أم أنه شرع إسلامي خالص؟ والراجح أنه شُرّع في الإسلام ابتداءً بدليل فعله النبي ﷺ وأصحابه، ولكن لا يُنفى أن أصله ورد في شريعة موسى، فقد جاء في الحديث الصحيح:
“فدعوا رسول الله ﷺ، فقام فيهم، فقال: «لا تجدون في التوراة الرجم؟» قالوا: نجد فيه، فحكم به ﷺ”.
3. تحريم الجمع بين الأختين في النكاح
وهو حكم موجود في التوراة، وأقره الإسلام، مما يبيّن أن الشريعة الإسلامية أقرّت بعض الأحكام السابقة لكونها تَناسَبت مع مقاصدها.
خامسًا: ضوابط الاستدلال بشرع من قبلنا
اعتمد العلماء في قبول شرع من قبلنا على عدة ضوابط منها:
| الضابط | الشرح |
|---|---|
| موافقة النص القرآني أو الحديث الصحيح | يجب أن يُستند الحكم على نص إسلامي صريح يقرّ به لا على مجرد وجوده في شريعة سابقة. |
| عدم وجود ناسخ له في شريعتنا | لا يجوز الاستدلال بشرع سابق إذا كان هناك ما ينسخه أو يعارضه في الإسلام. |
| عدم مخالفته لمقاصد الشريعة | فالحكم الذي يخالف العدل أو يسبب الضرر لا يمكن اعتماده كشرع ملزم لنا. |
| وروده بطريق ثابت وموثوق | إذا كان مأخوذًا من كتب أهل الكتاب، يجب الحذر لاحتمالية التحريف. |
سادسًا: أثر هذا الخلاف في الفروع الفقهية
ظهر أثر هذا الخلاف في العديد من المسائل، مثل:
-
مسألة تحريم لحوم الحيوانات المفترسة، حيث ورد تحريمها في شرائع سابقة، واختلف الفقهاء في تحريمها في الإسلام بناءً على الاستدلال بشرع من قبلنا.
-
بعض العقوبات مثل التعزير، وهل يُؤخذ بأمثلة من شريعة بني إسرائيل.
-
التعامل مع القصص الواردة في كتب أهل الكتاب، وهل يجوز استخدامها في التفسير أو لا، ما لم تخالف شرعنا.
سابعًا: موقف المذاهب الأربعة
| المذهب | الموقف من شرع من قبلنا |
|---|---|
| الحنفي | يُعدّ شرع من قبلنا شرعًا لنا إن لم يأتِ في شريعتنا ما يخالفه. |
| المالكي | لا يُعد شرعًا لنا إلا إذا أقرّه الشرع الإسلامي بنص واضح. |
| الشافعي | القولان فيه، والرواية الأرجح: ليس شرعًا لنا إلا إذا ورد نص يقرّه. |
| الحنبلي | يميل إلى ما وافقه شرعنا، ولا يحتج به استقلالًا ما لم يكن واردًا في نصوصنا. |
ثامنًا: الخلاصة والترجيح
يتضح أن المسألة ذات طابع اجتهادي، وهي مبنية على أصول النظر في الأدلة وموقف الإسلام من الشرائع السابقة. والراجح عند المحققين أن شرع من قبلنا لا يكون شرعًا لنا إلا إذا ورد في شريعتنا ما يقرّه أو لم يرد ما يخالفه بوضوح، وذلك وفقًا للضوابط الشرعية والأصول التشريعية المعتمدة.
ويُجمع العلماء على أنه لا يُحتج بشرعٍ من قبلنا إذا خالف مقاصد الشريعة أو ورد في الإسلام ما ينسخه، كما أنهم يحتاطون في اعتماد الأخبار الواردة من أهل الكتاب لما في ذلك من احتمالية التحريف.
المصادر والمراجع:
-
الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق: عبد الله دراز.
-
الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، تحقيق: عبد القادر عبد الله العاني.
