الإيجابية السامة: هل للإيجابية أضرار؟ (الجزء الثاني)

في عالم تتسارع فيه الخطى نحو تعزيز التفكير الإيجابي والنظرة المتفائلة للحياة، نشهد تزايدًا في الدعوات إلى تبني موقف متفائل دائمًا مهما كانت الظروف. غير أن هذه الدعوات، رغم نواياها الحسنة، قد تحمل في طياتها وجهًا آخر خفيًا وخطيرًا يُعرف باسم “الإيجابية السامة”. يشير هذا المصطلح إلى محاولة فرض التفكير الإيجابي بشكل مفرط وقسري، على حساب الاعتراف بالمشاعر السلبية ومعالجتها بطريقة صحية. وفي هذا الجزء الثاني من المقال، سيتم التعمق في فهم آثار هذا النمط من التفكير على الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية، والطرق العملية للتعامل مع المشاعر بشكل متوازن وإنساني.

ما هي الإيجابية السامة بشكل موسع؟

الإيجابية السامة ليست مجرد تشجيع على التفاؤل أو تبنّي رؤية متفائلة للحياة، بل تتعدى ذلك إلى إنكار الواقع العاطفي، وتجاهل الحزن، وتهميش الألم، والامتناع عن التعبير عن الغضب أو الخوف أو القلق بحجة أن التفكير السلبي مرفوض. يتمثل هذا في العبارات الرائجة مثل “كن إيجابيًا فقط”، “لا تفكر في الأمور السيئة”، “كل شيء سيصبح على ما يرام”، حتى عندما تكون الأمور في الواقع تسير نحو الأسوأ. هذا النوع من الإيجابية، على الرغم من مظهره المريح، قد يؤدي إلى إضعاف المرونة النفسية وإخفاء الأزمات بدلاً من مواجهتها.

كيف تؤثر الإيجابية السامة على الصحة النفسية؟

عند تجاهل المشاعر السلبية وعدم إعطائها المساحة اللازمة للتعبير والمعالجة، يحدث تراكم داخلي يؤدي إلى اضطرابات عاطفية شديدة. تتجلى الإيجابية السامة في الضغط الاجتماعي أو الذاتي لارتداء قناع من التفاؤل الزائف، مما يخلق فجوة كبيرة بين ما يشعر به الإنسان فعليًا وبين ما يُتوقع منه أن يظهره. من الآثار النفسية للإيجابية السامة:

• الإنكار العاطفي: الشعور بالذنب تجاه المشاعر السلبية يدفع الأفراد إلى إنكارها وقمعها بدلاً من مواجهتها.

• القلق والاكتئاب: تشير الدراسات النفسية إلى أن كبت المشاعر وعدم التصالح معها يزيد من احتمالية الإصابة باضطرابات نفسية مثل القلق المزمن والاكتئاب.

• العزلة: عندما يشعر الإنسان بأن حزنه غير مرحب به في مجتمعه أو محيطه، فإنه يميل إلى الانعزال وعدم مشاركة معاناته.

• تدهور تقدير الذات: التوقع المستمر بأن يكون الشخص إيجابيًا حتى في أصعب الظروف، قد يجعله يشعر بالفشل عندما يعجز عن مجاراة هذا المعيار المثالي.

آثار الإيجابية السامة على العلاقات الاجتماعية

لا تقف مخاطر الإيجابية السامة عند حدود الذات، بل تمتد إلى العلاقات مع الآخرين. إذ أنها تضعف من عمق التواصل البشري، وتمنع بناء علاقات قائمة على التفاهم الحقيقي والدعم المتبادل. في العلاقات العاطفية، مثلًا، يؤدي تجاهل مشاعر الشريك أو التقليل من شأنها إلى خلق فجوات وجدانية يصعب ردمها.

ومن صور الإيجابية السامة في العلاقات:

• الردود التبخيسية: مثل قول “لا داعي للبكاء، هناك من هم أسوأ حالاً”، بدلاً من تقديم دعم عاطفي صادق.

• تجنب المحادثات العميقة: الميل إلى تسطيح الأحاديث وتفادي النقاشات المؤلمة يؤدي إلى علاقات سطحية تفتقر إلى الأمان النفسي.

• فرض التفاؤل على الآخرين: إملاء النصائح الإيجابية باستمرار بدلًا من الاستماع، مما يجعل الآخر يشعر بعدم التقدير.

في بيئة العمل: الإيجابية السامة كقناع إداري

في بيئة العمل، تتجلى الإيجابية السامة في شعارات الشركات وممارسات الإدارة التي ترفض الاعتراف بالمشكلات التنظيمية أو مشاعر الموظفين. يتم تشجيع الموظفين على “الحفاظ على المعنويات مرتفعة” بغض النظر عن ظروفهم، مما يخلق بيئة تفتقر إلى الصراحة، ويصعب فيها إيصال الانتقادات أو المطالبة بالتغيير.

أمثلة على الإيجابية السامة في مكان العمل:

التفريق بين الإيجابية الصحية والإيجابية السامة

الإيجابية في جوهرها ليست أمرًا سلبيًا، بل هي أداة ضرورية لتجاوز المحن وبناء الثقة بالمستقبل. غير أن التمييز بين الإيجابية الصحية والسامة هو أمر بالغ الأهمية. فالإيجابية الصحية تقوم على تقبل المشاعر وتفهم الألم، وتعمل على تعزيز الأمل دون إنكار الواقع. أما الإيجابية السامة فهي تنكر المعاناة، وتدفع الإنسان إلى تجاهل ذاته الحقيقية.

خصائص الإيجابية الصحية:

• الاعتراف بجميع المشاعر ومنحها حقها في الظهور.

• استخدام التفاؤل كأداة للتمكين لا كقناع للهرب.

• تعزيز الأمل بطرق واقعية وعملية.

• احترام المساحات الشخصية والتعبير الذاتي.

التربية والإيجابية السامة: أثرها على الأطفال والمراهقين

في التربية، يمكن أن تكون الإيجابية السامة أكثر ضررًا، خاصة عندما تُفرض على الأطفال بطريقة تجعلهم يشعرون بالذنب حيال مشاعرهم. مثلًا، عندما يُقال للطفل “توقف عن البكاء، أنت بخير!”، فإن الرسالة الضمنية تكون أن التعبير عن الألم غير مقبول، مما يؤثر على نموه العاطفي السليم. هذا قد يؤدي لاحقًا إلى صعوبة في التعامل مع الإحباطات أو في إقامة علاقات صحية.

الإعلام والإيجابية السامة: الوجه المثالي المزيف

تسهم وسائل الإعلام، خاصة منصات التواصل الاجتماعي، في تكريس الإيجابية السامة عبر إبراز الوجوه الباسمة والقصص الناجحة فقط، مما يولد ضغطًا نفسيًا لدى المتابعين الذين يقارنون حياتهم اليومية الصعبة بصور مثالية مزيفة. يتم تجاهل الفشل، المعاناة، والمرض، في سبيل إبراز “صورة الحياة السعيدة الدائمة”، وهو ما يؤدي إلى اضطرابات في تقدير الذات والشعور بالوحدة.

مناهج علم النفس في التعامل مع المشاعر السلبية

ترى العديد من مدارس علم النفس أن الاعتراف بالمشاعر السلبية ومعالجتها هو الخطوة الأولى نحو الشفاء النفسي، ومن أهم هذه المناهج:

• العلاج السلوكي المعرفي (CBT): يعلّم الأفراد كيفية التعرف على أنماط التفكير غير الصحية والتعامل معها من خلال إعادة الهيكلة المعرفية.

• العلاج القائم على القبول والالتزام (ACT): يشجع على قبول المشاعر السلبية كجزء طبيعي من الحياة دون الحكم عليها.

• العلاج النفسي الديناميكي: يستهدف فهم جذور المشاعر المكبوتة والعلاقات القديمة التي أثرت على البنية النفسية الحالية.

ممارسات للتعامل الصحي مع المشاعر السلبية

من المهم إدراك أن الطريق نحو التوازن النفسي لا يمر بإنكار الألم بل بمرافقته وفهمه. يمكن تبني بعض الممارسات اليومية للتعامل مع المشاعر بشكل صحي:

• تخصيص وقت يومي للتفكير أو الكتابة عن المشاعر.

• مشاركة ما يختلج في النفس مع أشخاص داعمين وآمنين.

• طلب الدعم النفسي المتخصص عند الشعور بعدم القدرة على المواجهة.

• تمارين اليقظة الذهنية (Mindfulness) لمراقبة المشاعر دون إصدار أحكام.

الخلاصة: التوازن النفسي في زمن الإيجابية الزائفة

في عالم يفيض بالدعوات إلى التفاؤل والنجاح والانتصار الدائم، علينا أن نتذكر أن الشعور بالحزن أو الإحباط ليس عيبًا، بل هو جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية. لا يكمن التحدي في أن نكون سعداء طوال الوقت، بل في أن نتعامل مع مشاعرنا بصدق وواقعية. الإيجابية السامة، رغم مظهرها اللطيف، قد تتحول إلى قيد نفسي يعيق النمو والمرونة. أما الإيجابية الحقيقية، فهي التي تقبل الإنسان كما هو، في ضعفه وقوته، في فرحه وحزنه، وتمنحه الحرية الكاملة ليعيش مشاعره بدون تزييف.

المصادر:

1. Whitney Goodman, Toxic Positivity: Keeping It Real in a World Obsessed with Being Happy, TarcherPerigee, 2022.

2. American Psychological Association (APA) – Resources on Emotional Regulation and Positive Psychology.