الإيجابية السامة: المفهوم، الأضرار، والطرق العلمية لتجنبها

في عالم يزداد انشغالاً بالتحفيز والإلهام، أصبحت الإيجابية مفهوماً مركزياً في الثقافة الحديثة. كثيراً ما يُنصح الناس بالبقاء متفائلين، والتركيز على الجانب المضيء من الحياة، والابتعاد عن الشكوى أو السلبية. غير أن هذه النزعة نحو الإيجابية قد تتجاوز حدها الطبيعي لتتحول إلى ما يعرف بـ”الإيجابية السامة”، وهي حالة من إنكار الواقع العاطفي والمعاناة الحقيقية، مما يؤدي إلى أضرار نفسية وعاطفية على المدى الطويل.

في هذا المقال المطوّل، سيتم تحليل مفهوم الإيجابية السامة بصورة عميقة، وشرح آثارها النفسية والاجتماعية، مع توضيح الفروق الجوهرية بينها وبين الإيجابية الحقيقية الصحية، وأخيراً عرض أهم الطرق العلمية والنفسية لتجنب الوقوع في هذا الفخ.

تعريف الإيجابية السامة

الإيجابية السامة (Toxic Positivity) هي فرض فكرة أن على الإنسان أن يكون إيجابياً وسعيداً طوال الوقت، بغض النظر عن الموقف أو المشاعر الحقيقية التي يمر بها. يتجلى هذا النوع من الإيجابية عندما يُقال لشخص يعاني: “كن إيجابياً فقط”، “لا داعي للحزن”، “الأمور ستكون بخير”، دون الاعتراف بمعاناته أو مشاعره السلبية.

يتحول بذلك التفاؤل من وسيلة للتعامل مع الصعوبات إلى وسيلة لقمع المشاعر وتجاهل الألم النفسي، مما يُحدث نوعاً من الإنكار الداخلي للواقع، ويفرض شعوراً بالذنب تجاه المشاعر السلبية الطبيعية مثل الحزن، القلق، الغضب، أو الإحباط.

مظاهر الإيجابية السامة في الحياة اليومية

تتخذ الإيجابية السامة أشكالاً متعددة في العلاقات الشخصية، بيئة العمل، وحتى في التفاعل مع النفس. من بين أكثر مظاهرها شيوعاً:

• الردود الجاهزة والمُنمطة: مثل قول “انظر للجانب المشرق” أو “كل شيء يحدث لسبب”.

• إنكار مشاعر الآخرين: حين يشارك شخص مشاعره السلبية ويتم الرد عليه بنصائح تفاؤلية سطحية.

• الضغط الاجتماعي على التفاؤل: حيث يشعر الأفراد بأنهم ملزمون بإظهار السعادة والابتسام حتى عندما لا يشعرون بذلك.

• إجبار الذات على تجاهل الألم: من خلال تجنب الحزن، الدموع، أو حتى الحديث عن الصعوبات.

الفرق بين الإيجابية الصحية والإيجابية السامة

الأضرار النفسية للإيجابية السامة

رغم أن النية من ورائها قد تكون حسنة، فإن الإيجابية السامة تؤدي إلى عواقب نفسية وخيمة، من بينها:

1. كبت المشاعر

عندما يُطلب من الفرد قمع مشاعره السلبية باستمرار، يؤدي ذلك إلى تراكم داخلي للتوتر والضغط، ما قد ينتج عنه انفجارات نفسية لاحقة، نوبات قلق، أو حتى اكتئاب.

2. فقدان الأصالة في العلاقات

العلاقات الإنسانية تحتاج إلى مساحة آمنة للتعبير عن المشاعر بكل أشكالها. أما في ظل الإيجابية السامة، يشعر الأفراد بأنه من غير المسموح لهم بأن يكونوا “ضعفاء”، ما يخلق علاقات سطحية وغير متصلة على المستوى العاطفي الحقيقي.

3. انعدام التعاطف الذاتي

الإيجابية السامة تعزز نظرة قاسية للنفس، حيث يُنظر إلى الحزن أو الفشل كعيب يجب التخلص منه، بدلاً من قبوله كجزء طبيعي من التجربة الإنسانية.

4. عزلة داخلية متزايدة

حين لا يتم الاعتراف بالمشاعر السلبية، يبدأ الإنسان بالشعور وكأنه وحيد في معاناته، مما يزيد من شعوره بالعزلة والانفصال عن الآخرين.

5. تشويه الواقع

بدلاً من مواجهة الواقع كما هو، تدفع الإيجابية السامة الأفراد إلى إنكاره أو تزييفه، مما يعيق عملية النمو الشخصي والتعافي الحقيقي.

الجذور الثقافية والاجتماعية للإيجابية السامة

ترتبط الإيجابية السامة بثقافة “النجاح الدائم” التي تروّج لها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث يظهر الجميع في حالة دائمة من السعادة والنجاح والرضا. هذه الثقافة لا تترك مساحة للاعتراف بالضعف أو الخطأ أو الحزن، مما يعمّق من الشعور بالعار أو الفشل عند الشعور بأي مشاعر سلبية.

كما تُساهم بعض الأيديولوجيات الدينية أو الروحية أحياناً في تعزيز هذه النظرة غير الواقعية للحياة، من خلال التأكيد على أن كل شيء “خير” أو أن “الإيمان الحقيقي لا يعرف الحزن”، وهو أمر لا يتماشى مع الطبيعة النفسية المعقدة للإنسان.

كيف تتجنب الإيجابية السامة؟ (طرق علمية وعملية)

تجنب الإيجابية السامة لا يعني التشجيع على السلبية، بل يتعلق بخلق توازن صحي بين قبول المشاعر ومواجهة التحديات. وفيما يلي أهم الطرق العلمية لتجنب هذه الظاهرة:

1. تبني التعاطف العاطفي

عندما يشارك أحدهم تجربة مؤلمة، استمع إليه بدون إصدار أحكام أو محاولة إصلاح مشاعره. يكفي أحياناً أن تقول: “أتفهم شعورك، لا بد أن الأمر كان صعباً”.

2. ممارسة “القبول الراديكالي”

وهو مفهوم في العلاج السلوكي الجدلي (DBT)، يدعو إلى تقبّل الواقع كما هو، بما فيه من ألم أو تعقيد، دون مقاومته أو الحكم عليه.

3. السماح للمشاعر بالتعبير

المشاعر السلبية ليست عدواً يجب القضاء عليه، بل رسائل تحتاج إلى الاستماع والفهم. البكاء، الغضب، الحزن، كلها أدوات لتنظيم الحالة النفسية وليست علامات ضعف.

4. التثقيف النفسي

فهم آليات النفس البشرية يساعد على تفكيك الصور النمطية حول التفاؤل والنجاح. القراءة في مجالات علم النفس الإيجابي الواقعي، والتجارب الإنسانية الحقيقية، تساهم في بناء تصور متوازن للحياة.

5. الموازنة في بيئة العمل

ينبغي على القادة والمديرين في المؤسسات أن يسمحوا للموظفين بالتعبير عن الإحباط أو التعب، دون الخوف من أن يُنظر إليهم على أنهم سلبيون. توفير بيئة عمل تُعزز الصراحة والانفتاح العاطفي ضرورة نفسية وليس ترفاً.

6. مراجعة لغة الخطاب الداخلي

عندما تقول لنفسك “لا يجب أن أشعر بهذا”، استبدلها بـ “من الطبيعي أن أشعر بذلك الآن، وسأتعامل مع مشاعري بحب وصبر”.

7. تدريب النفس على الصبر الوجداني

الصبر لا يعني التجاهل، بل قبول الموقف كما هو، وإعطاء الوقت اللازم للشفاء والتأقلم، دون إقحام التفاؤل القسري في كل مرحلة من مراحل الألم.

الإيجابية الحقيقية: كيف نعيد صياغة المفهوم؟

المطلوب ليس التخلّي عن الإيجابية، بل إعادة تعريفها ضمن إطار صحي وإنساني. فالإيجابية الحقيقية لا تنكر الألم، بل تعترف به وتعمل على تجاوزه. هي التي تقول: “أشعر بالألم، وهذا طبيعي، وسأجد طريقتي في التعافي”. وهي التي تمنحنا القدرة على التحمّل، لا لأنها ترفض الحزن، بل لأنها تتجاوزه برفق وتفهم.

تتجلى هذه الإيجابية في القدرة على إيجاد معنى في المعاناة، والتعلم من التجربة، دون فرض شعور معين أو حُكم مسبق على الذات أو الآخرين.

الخلاصة

الإيجابية السامة هي أحد أخطر أشكال الإنكار النفسي المنتشرة في المجتمع الحديث، رغم أن مظاهرها قد تبدو براقة. فهي تغلف الألم بالكلمات الجميلة، لكنها تمنع عن الإنسان حقه في الشعور، التعبير، والتعافي. إن المشاعر السلبية ليست مرضاً ينبغي الخلاص منه، بل بُعد من أبعاد الإنسان الطبيعي. وحده الاعتراف الكامل بإنسانيتنا، بكل تناقضاتها، يمنحنا السلام الداخلي والقدرة على النمو.

المراجع:

1. Quintero, G. (2020). Toxic Positivity: Keeping It Real in a World Obsessed with Being Happy. Sourcebooks.

2. Psychology Today. “Toxic Positivity: The Dark Side of Positive Vibes.” [https://www.psychologytoday.com]