الإفراط في التحدث عن الذات

الإفراط في التحدث عن الذات: اضطراب خفي يقوّض العلاقات والصورة الذاتية

يُعد التحدث عن الذات أمراً طبيعياً في التفاعلات الاجتماعية اليومية، حيث يسعى الأفراد إلى التعبير عن تجاربهم وأفكارهم وهويتهم، غير أن الإفراط في هذا السلوك يتحول إلى نمط غير صحي قد يؤثر سلباً على العلاقات الاجتماعية، والتوازن النفسي، والاندماج المجتمعي. تتجلى هذه الظاهرة في كثير من الحوارات الشخصية والمهنية، وغالباً ما تمر دون وعي من الشخص المتحدث، إلا أنها تترك انطباعات عميقة لدى الآخرين، وتكشف عن بنى نفسية داخلية تتطلب تحليلاً عميقاً وفهماً متأنياً.

أولاً: التحدث عن الذات بين التعبير الطبيعي والمبالغة

من الناحية النفسية، يعد التحدث عن الذات جزءاً من آليات التعبير عن الهوية والانتماء، حيث يشعر الفرد بالحاجة إلى مشاركة قصصه الشخصية، نجاحاته، مشاعره وتجاربه. هذا التبادل يشكل عنصراً حيوياً في بناء الثقة والتقارب بين الناس. لكن عندما يتحول التحدث عن الذات إلى محور أساسي في الحوار، حيث يتم تجاهل الآخر أو التقليل من شأن مشاركته، يصبح السلوك مرشحاً لأن يُصنّف ضمن الممارسات النرجسية أو الدفاعية أو غير الناضجة.

الإفراط في الحديث عن النفس يتمظهر غالباً عبر:

• الإكثار من استخدام ضمائر المتكلم مثل “أنا”، “لي”، “عندي”.

• تحويل أي موضوع عام إلى تجربة شخصية.

• تكرار نفس القصص والمواقف الخاصة.

• عدم إتاحة الفرصة للآخرين للحديث.

• المبالغة في عرض الإنجازات.

ثانياً: الجذور النفسية والاجتماعية للسلوك

الإفراط في الحديث عن الذات لا ينبع من فراغ، بل يرتبط عادة بعدد من الدوافع النفسية والاجتماعية العميقة، أبرزها:

1. الحاجة إلى إثبات الذات والاعتراف الخارجي

كثير من الأشخاص يشعرون بعدم الأمان الداخلي، ويبحثون عن الإقرار من الآخرين كوسيلة لتعزيز الشعور بقيمتهم. في هذا السياق، يصبح الحديث المتكرر عن النجاحات والتجارب الشخصية وسيلة تعويضية لتأكيد الهوية وتثبيت صورة الذات أمام المحيط.

2. اضطرابات النرجسية أو هشاشة الأنا

في بعض الحالات، يعكس الإفراط في التحدث عن الذات ملامح من الشخصية النرجسية، حيث يسيطر الانشغال بالصورة الخارجية والرغبة في الإعجاب على مجمل السلوك الاجتماعي. غير أن النرجسية أحياناً تخفي تحتها شعوراً دفيناً بالنقص أو الهشاشة الداخلية، ما يدفع الشخص إلى التعويض الزائد بالكلام عن نفسه.

3. غياب مهارات الإصغاء والتواصل

البعض يفتقر إلى المهارات الأساسية في فنون الحوار، كالإصغاء الفعّال، طرح الأسئلة، ومراعاة توازن المشاركة. هؤلاء يندفعون بشكل لا إرادي في الحديث عن أنفسهم، إما لأنهم يجهلون كيفية إشراك الآخرين، أو لأنهم لم يعتادوا على الحوارات المتبادلة.

4. التأثر بالبيئة والثقافة

بعض الثقافات والمجتمعات تشجع على التميز الفردي والمنافسة، وتربط النجاح بالتعبير المكثف عن الذات، مما يؤدي إلى ظهور هذا النمط السلوكي كعلامة ضمنية على القوة أو الثقة أو الريادة، بينما في الحقيقة، قد يكون معيقاً للتواصل الفعّال.

ثالثاً: الآثار النفسية والاجتماعية للإفراط في التحدث عن الذات

الإفراط في الحديث عن النفس يترك تأثيرات سلبية لا تقتصر على الآخرين، بل تمتد إلى صاحب السلوك نفسه. من هذه الآثار:

1. تآكل العلاقات الاجتماعية

يؤدي التركيز المفرط على الذات إلى إضعاف الروابط الاجتماعية، حيث يشعر الطرف الآخر بأنه غير مسموع أو غير مرئي. بمرور الوقت، يبتعد الناس عن الشخص الذي لا يظهر أي اهتمام بحياتهم أو تجاربهم، ما يفضي إلى عزلة اجتماعية غير مباشرة.

2. فقدان المصداقية

التكرار والمبالغة في عرض الإنجازات قد يُفقد الشخص مصداقيته، خاصة إذا لم تكن الأفعال توازي الأقوال. كما يُنظر إلى هذا النمط كعلامة على التفاخر أو الغرور، مما يضعف تأثير الرسالة المقصودة.

3. ضعف النمو الشخصي

عندما ينشغل الإنسان بذاته بشكل مفرط، يتضاءل فضوله تجاه الآخرين والحياة من حوله، ما يعوق عملية التعلّم والتطور الفكري والاجتماعي. فالحوارات المتبادلة هي من أبرز مصادر الوعي والتجديد الشخصي، وحرمان النفس منها يمثل فقداناً لفرص النمو.

4. تشوه الإدراك الذاتي

يؤدي هذا السلوك أحياناً إلى تضخيم صورة الذات بطريقة غير واقعية، ما يجعل الشخص عرضة لانكسارات نفسية حادة في حال تعرض للنقد أو التقييم الموضوعي، لأنه بنى صورة ذاتية غير متوازنة أو مفصولة عن الواقع الفعلي.

رابعاً: التمييز بين الاعتزاز بالذات والتفاخر الزائد

من المهم التفريق بين الاعتزاز المشروع بالذات، والتفاخر المفرط المضر. فالأول يعكس ثقة صحية ووعياً بالنقاط الإيجابية، ويُعبّر عنه غالباً بطريقة متزنة وغير متكررة. أما الثاني، فيكون ناتجاً عن شعور داخلي بالفراغ أو الحاجة الدائمة لإثبات الذات للآخرين.

الاعتزاز بالذات الصحي:

• يُعبّر عنه عند الحاجة أو في سياق ملائم.

• يتيح المجال للآخرين للحديث.

• يتسم بالتواضع وتقدير تجارب الغير.

• لا يعتمد على المبالغة أو التهويل.

أما التفاخر الزائد:

• يُكرَّر بدون داعٍ.

• يتجاهل الطرف الآخر تماماً.

• يرتكز على تضخيم الإنجازات.

• يُستخدم كآلية دفاعية لإخفاء الشعور بالنقص.

خامساً: نصائح للتقليل من الإفراط في الحديث عن النفس

يمكن التخفيف من هذا السلوك عبر مجموعة من الخطوات العملية التي تعزز الوعي الذاتي وتحسن من جودة التفاعل الاجتماعي:

سادساً: الانعكاسات المهنية للإفراط في التحدث عن الذات

في بيئات العمل، يمكن أن يؤثر الإفراط في الحديث عن النفس على سمعة الفرد، ويعوق فرص الترقي أو بناء علاقات عمل ناجحة. غالباً ما يُنظر إلى هذا السلوك كدليل على ضعف القيادة أو غياب التعاون، خاصة عندما يُقابل بتجاهل لإنجازات الفريق أو التقليل من مساهمات الزملاء.

كما أن الاجتماعات، وعروض المشاريع، والمقابلات المهنية قد تتأثر سلباً عندما يطغى الحديث الذاتي على التركيز على النتائج الجماعية، مما يعكس غياباً للحس الاستراتيجي أو الإداري.

سابعاً: كيف يراه الآخرون؟

الآخرون عادة ما يكوّنون انطباعات سريعة وسلبية عن الأشخاص الذين يفرطون في الحديث عن أنفسهم. في الثقافة الاجتماعية، يُربط هذا النمط بالأنانية، وعدم النضج، والنرجسية، والفراغ الداخلي، والسطحية. كما يتجنب كثير من الناس التفاعل المطول مع هذه الفئة، ما يقلص من فرص بناء شبكات دعم اجتماعية أو مهنية متينة.

ثامناً: المنظور التحليلي النفسي

من منظور التحليل النفسي، يمكن فهم الإفراط في الحديث عن الذات كآلية دفاعية تعكس صراعات داخلية غير محلولة. على سبيل المثال، يرى بعض المحللين أن هذا السلوك يرتبط بمرحلة الطفولة التي قد يكون فيها الشخص تعرض للتهميش أو الإهمال العاطفي، ما جعله لاحقاً يسعى إلى تعويض هذا الحرمان عبر تضخيم الذات أمام الآخرين.

كذلك، يرى البعض أن هذا الميل يعكس حاجة لإعادة تأكيد الهوية الذاتية في عالم سريع التغير، خاصة لدى الأشخاص الذين لم يطوروا إحساساً راسخاً بالذات المستقلة، فيلجؤون إلى الخارج لتغذية هذا النقص.

تاسعاً: التوازن هو الحل

إن بناء توازن صحي في الحوار بين الحديث عن الذات والاستماع للآخرين يُعد مؤشراً على النضج الاجتماعي والذكاء العاطفي. فالحوار الحقيقي يقوم على التبادل، لا على الاستحواذ؛ وعلى المشاركة لا على السيطرة؛ وعلى الإصغاء بقدر ما يقوم على التعبير.

الحل لا يكمن في كبت الذات أو الصمت الكامل، بل في الوعي اللحظي بالدوافع الداخلية، والاستعداد للتعديل الذاتي المستمر. فكل كلمة نُطلقها تحمل أثراً، وكل حوار نخوضه يعكس جوهرنا.

المصادر

1. Cain, Susan. Quiet: The Power of Introverts in a World That Can’t Stop Talking. Crown Publishing Group, 2012.

2. Brown, Brené. Daring Greatly. Gotham Books, 2012.