الإسلام وبناء المجتمع القوي

الإسلام وبناء المجتمع

يُعد الإسلام منظومة شاملة متكاملة، لا تقتصر على تنظيم علاقة العبد بربه فحسب، بل تمتد لتشمل جميع جوانب الحياة، وفي مقدمتها الجانب الاجتماعي الذي يشكّل النواة الأساس لقيام المجتمعات واستقرارها. فالمجتمع في الرؤية الإسلامية ليس مجرد تجمع بشري يعيش ضمن إطار جغرافي محدد، وإنما هو كيان حيّ ينبض بالإيمان، ويُبنى على أساس من العقيدة والأخلاق والعدل والتكافل. يتناول هذا المقال العلاقة المتجذّرة بين الإسلام وبناء المجتمع، موضحًا كيف أرست الشريعة الإسلامية أسسًا متينة لبناء مجتمع إنساني متراصّ البنيان، متكامل الأركان، تسوده المودة، وينتفي فيه الظلم والفقر والتفكك.

أولاً: العقيدة كأساس للبناء المجتمعي

إن العقيدة الإسلامية هي القاعدة الصلبة التي يُشاد عليها بناء المجتمع. فهي تغرس في الأفراد قيم التوحيد، والانقياد لأوامر الله، والخضوع لأحكامه، مما يخلق شعورًا داخليًا بالرقابة الذاتية، ويجعل الفرد أكثر التزامًا بقواعد الأخلاق والتعامل الإنساني. العقيدة تربي الإنسان على أنه عضو في جماعة، مسؤول عن سلوكه، ومطالب بالإسهام في الخير العام.

وقد أكّد القرآن الكريم على وحدة الأصل البشري: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا” [الحجرات: 13]، مما يرسخ مبدأ المساواة والتكافؤ ويُسقط كل معايير التمييز العرقي أو الطبقي.

ثانيًا: العدل ركيزة الاستقرار المجتمعي

العدل في الإسلام ليس قيمة نظرية أو مطلبًا فلسفيًا، بل هو واجب شرعي وقاعدة من قواعد الحكم والتعامل. قال تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ” [النحل: 90]، وجاءت السنة النبوية لتؤكد أن إقامة العدل من أعظم مقاصد النبوة. إن العدل يضمن توزيع الحقوق والواجبات، ويمنع الظلم، ويُشعر كل فرد في المجتمع بأنه محفوظ الكرامة والمكانة.

وقد طبّق الخلفاء الراشدون العدل بصورة عملية، كما في قصة عمر بن الخطاب حينما قال قولته الشهيرة مخاطبًا عمرو بن العاص بعد أن شكا إليه ابن أحد المصريين قائلاً: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟”، مؤكدًا أن العدالة في المجتمع الإسلامي ليست حكرًا على المسلمين، بل تشمل غير المسلمين أيضًا.

ثالثًا: التكافل الاجتماعي ونظام الزكاة

من أبرز سمات المجتمع في الإسلام أنه مجتمع متكافل، لا يُترك فيه الضعيف فريسة للجوع، ولا يُهمش فيه المحتاج، بل تُبنى العلاقات فيه على قاعدة “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا”. وقد شرع الإسلام الزكاة باعتبارها نظامًا ماليًا واجتماعيًا يهدف إلى توزيع الثروات وتقليص الفوارق الطبقية.

إن الزكاة ليست تبرعًا، بل فرضٌ شرعي لا يسقط إلا بأدائه. وقد أحصى الفقهاء الأصناف المستحقين لها في قوله تعالى: “إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ…” [التوبة: 60]، ما يُظهر شمول النظام الإسلامي لجميع فئات المجتمع، ويمنع نشوء الأزمات الاجتماعية الناتجة عن الحرمان والبطالة.

رابعًا: الأسرة لبنة البناء الأولى

أولى الإسلام الأسرة عناية فائقة، فجعلها نواة المجتمع، وأحاطها بمنظومة من التشريعات التي تحفظ كيانها وتقوّي روابطها. فالزواج في الإسلام ليس مجرد علاقة بين رجل وامرأة، بل هو ميثاق غليظ قائم على المودة والرحمة. قال تعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا” [الروم: 21].

وقد نظّم الإسلام العلاقة بين الزوجين، وحقوق الأولاد، وواجبات الأبوين، مما أسهم في استقرار الأسرة، التي إذا صلحت صلح المجتمع، وإذا فسدت تفكك وانحلت أواصره.

خامسًا: التربية الأخلاقية والتهذيب السلوكي

من أبرز ملامح المجتمع الإسلامي التزام أفراده بالأخلاق الكريمة والسلوكيات المهذبة، فالرسالة المحمدية جاءت لتكمّل مكارم الأخلاق، كما ورد في الحديث: “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.

وقد أحاط الإسلام الأخلاق بسياج من الرقابة الإلهية والمجتمعية، فحرّم الغيبة والنميمة، وحث على الصدق، والأمانة، والتواضع، والإيثار، والتسامح، والعفو. فالمجتمع الذي تُبنى فيه العلاقات على أساس من الأخلاق هو مجتمع سليم البناء، متماسك الأطراف.

سادسًا: نظام الحسبة ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أرسى الإسلام في بنية المجتمع نظامًا فريدًا هو “الحسبة”، يقوم على مبدأ المراقبة المجتمعية لضبط السلوك العام، وتحقيق الانضباط الأخلاقي، وذلك من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: “وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ” [آل عمران: 104].

هذا النظام لا يُفوض إلى الدولة فقط، بل هو مسؤولية جماعية، تؤدي إلى تطهير المجتمع من الفساد والانحراف، وتحقيق الرقابة الذاتية بين أفراده.

سابعًا: حماية الحقوق وصيانة الكرامة الإنسانية

الإسلام مجتمع يحترم الإنسان لكونه إنسانًا، بغض النظر عن دينه أو جنسه أو عرقه. وقد أقرّ الإسلام الحقوق الأساسية لكل فرد: كحق الحياة، وحرية المعتقد، وحرية التملك، والحق في العمل والتعليم. بل واعتبر الاعتداء على النفس البشرية جريمة كبرى، قال تعالى: “مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ… فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا” [المائدة: 32].

وقد طبّق النبي صلى الله عليه وسلم هذه المبادئ في المجتمع المدني، فكان يحمي غير المسلمين، ويمنحهم حق الأمن، ويعاقب على أي انتهاك لكرامتهم أو ممتلكاتهم.

ثامنًا: دور العلم والتعليم في بناء المجتمع

العلم في الإسلام فريضة، كما في الحديث: “طلب العلم فريضة على كل مسلم”، وقد اعتُبر العلماء ورثة الأنبياء، لأنهم يحملون مشعل الهداية والمعرفة، ويُسهمون في تقوية البناء الحضاري للمجتمع.

وقد قامت الحضارة الإسلامية عبر التاريخ على مراكز علمية وجامعات كانت منارات إشعاع في بغداد، وقرطبة، والقاهرة، وفاس، أسهمت في تقدّم البشرية. فالمجتمع الذي يكرّم العلماء ويعلي من قيمة العلم هو مجتمع قادر على النهوض والاستمرارية.

تاسعًا: التعاون والتضامن في مواجهة الأزمات

عند التأمل في النصوص القرآنية والحديثية، نجد دعوة دائمة إلى التعاون على البر والتقوى، والتكافل عند النوازل، كما في قوله تعالى: “وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ” [المائدة: 2]. هذا التعاون يترجم في صورة مجتمع يستنفر طاقاته لمواجهة الأزمات، مثل الكوارث، والفقر، والمرض، والحروب.

وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم فضل إغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج، وسدّ فاقة المسكين، مما يعكس التوجيه الإسلامي في بناء مجتمع متعاضد لا ينهار أمام التحديات.

عاشرًا: الاقتصاد الإسلامي والتنمية المجتمعية

الاقتصاد في الإسلام ليس مجرد وسيلة لجمع المال، بل أداة لتحقيق التنمية والعدالة. وقد حرّم الإسلام الربا والاحتكار، وفرض الزكاة، وحث على العمل والإنتاج، وأرسى قواعد المعاملات المالية الشفافة، مما يؤدي إلى توزيع عادل للثروات وتنشيط عجلة الإنتاج.

ولأن الإسلام يربط الاقتصاد بالقيم، فقد وازن بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية، مما يُنتج مجتمعًا ناميًا اقتصاديًا، آمنًا اجتماعيًا، مستقرًا سلوكيًا.

جدول: مقومات المجتمع الإسلامي

خاتمة

إن بناء المجتمع في الإسلام لا يقوم على الأسس المادية وحدها، بل هو مشروع إيماني وأخلاقي واقتصادي متكامل، يهدف إلى تحقيق الخير الشامل للإنسانية جمعاء. فالمجتمع الإسلامي، كما تصوره الشريعة، هو مجتمع العدل، والكرامة، والتعاون، والعلم، ومكارم الأخلاق. ومن هنا فإن استلهام هذه القيم وتطبيقها في الواقع المعاصر يضمن قيام مجتمع متماسك قادر على مجابهة التحديات، ويسير بخطى ثابتة نحو الحضارة والنهضة.

المراجع:

1. الغزالي، “إحياء علوم الدين”، دار المعرفة، بيروت.

2. يوسف القرضاوي، “الإسلام حضارة الغد”، مكتبة وهبة، القاهرة.