الإسكندرية: عروس البحر المتوسط

عروس البحر المتوسط: الإسكندرية – بين عبق التاريخ وروح الحداثة

مقدمة

تحمل مدينة الإسكندرية لقب “عروس البحر المتوسط” عن جدارة واستحقاق، فهي ليست مجرد مدينة مصرية تقع على الساحل الشمالي، بل هي أيقونة حضارية وتاريخية وثقافية تمثل جسرًا بين الماضي العريق والحاضر المتجدد. منذ تأسيسها على يد الإسكندر الأكبر في القرن الرابع قبل الميلاد، ظلت الإسكندرية مركزًا للفكر والعلم والفن والتجارة، مستقطبة الشعوب والثقافات المختلفة، حتى أصبحت رمزًا للتنوع والتعدد والانفتاح. وقد لعبت المدينة دورًا مركزيًا في تاريخ البحر المتوسط، ولا تزال حتى اليوم تحتفظ بمكانتها الاستراتيجية والرمزية في قلب مصر والعالم العربي.

تجمع الإسكندرية في تفاصيلها بين روعة البحر وسحر العمارة، وبين عراقة الآثار وحداثة الحياة اليومية، مما يجعلها متحفًا مفتوحًا ومتنفسًا ثقافيًا وسياحيًا متفردًا. وتعد المدينة مركزًا حيويًا للتاريخ اليوناني والروماني، ومهدًا للعديد من المدارس الفلسفية والعلمية في العصور القديمة، إلى جانب كونها منطلقًا للنهضة الفكرية والثقافية في العصر الحديث.

الجغرافيا والموقع الاستراتيجي

تقع الإسكندرية على الساحل الشمالي لمصر، وتمتد بطول حوالي 70 كيلومترًا على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، مما يمنحها واجهة بحرية واسعة تشكل عنصرًا جوهريًا في تكوينها العمراني والاجتماعي. يحدها من الشمال البحر المتوسط، ومن الجنوب محافظة البحيرة، ومن الشرق خليج أبو قير، ومن الغرب سيدي كرير والعامرية. وتتميز بتنوع تضاريسها الساحلية، بين الشواطئ الرملية الممتدة والكورنيش الصخري الشهير.

هذا الموقع الاستراتيجي منح المدينة أهمية بالغة منذ العصور القديمة، إذ شكّلت معبرًا بحريًا مهمًا يربط بين الشرق والغرب، وجعل منها مركزًا تجاريًا عالميًا يستقطب البضائع والثقافات من شتى أنحاء العالم. كما ساعد موقعها المعتدل مناخيًا، مع صيف لطيف وشتاء معتدل، على جعلها وجهة مفضلة للسياحة والاستقرار.

تاريخ الإسكندرية القديم

تأسست الإسكندرية عام 331 قبل الميلاد على يد الإسكندر الأكبر الذي حلم ببناء مدينة تجمع بين الحضارة اليونانية والعبقرية الشرقية. وبالفعل، تحولت المدينة خلال فترة وجيزة إلى واحدة من أعظم مدن العالم القديم، وكانت تحتضن ما يزيد عن نصف مليون نسمة في وقت لم تكن فيه أية مدينة أوروبية تتجاوز مئة ألف نسمة. ولعبت دورًا محوريًا في التاريخ البطلمي والروماني والبيزنطي.

من أبرز المعالم التاريخية للإسكندرية القديمة:

• مكتبة الإسكندرية القديمة: كانت منارة للعلم والفكر، تضم مئات الآلاف من المخطوطات في مختلف العلوم والمعارف، وأشرف على إدارتها كبار الفلاسفة والعلماء من أمثال إقليدس وبطليموس.

• منارة الإسكندرية: إحدى عجائب الدنيا السبع القديمة، شُيدت على جزيرة فاروس، وبلغ ارتفاعها نحو 120 مترًا، وكانت تُستخدم لإرشاد السفن، مما يعكس ريادة المدينة في الملاحة.

• المتحف والمسرح الروماني: وهو ما تبقى من الآثار الرومانية التي كانت شاهدة على حقبة مزدهرة من الثقافة والفن.

وقد تعاقبت على المدينة حضارات شتى، من اليونان إلى الرومان ثم البيزنطيين، قبل أن تدخل تحت الحكم الإسلامي على يد عمرو بن العاص في القرن السابع الميلادي، لتبدأ مرحلة جديدة من التفاعل الثقافي والتاريخي.

الإسكندرية الإسلامية والعثمانية

شهدت المدينة تحولًا كبيرًا مع دخول الإسلام، واحتفظت بأهميتها كميناء رئيسي لمصر والعالم العربي. تطورت المدينة في العصور الإسلامية من مركز تجاري بحري إلى مدينة ذات طابع ثقافي وديني مميز، حيث أنشئت المساجد والمدارس، وتوسعت حركة التجارة مع المغرب والأندلس والشام.

في العصر الفاطمي والمملوكي، استمرت الإسكندرية في الازدهار، خصوصًا كميناء استراتيجي ومركز لحركة الحجاج من شمال أفريقيا نحو مكة. ومع دخول العثمانيين في القرن السادس عشر، حافظت على دورها كمركز عسكري وتجاري مهم، رغم أن القاهرة كانت العاصمة السياسية.

عروس البحر في العصر الحديث

عرفت الإسكندرية في العصر الحديث، لاسيما في القرنين التاسع عشر والعشرين، نهضة عمرانية وثقافية متقدمة بفضل الانفتاح على أوروبا، حيث كانت تحتضن جاليات من إيطاليا، واليونان، وفرنسا، والشام، ما جعلها نموذجًا للمدن الكوزموبوليتية. وقد ساعدت الاستثمارات الأجنبية والاهتمام بالبنية التحتية على تحويل المدينة إلى حاضرة اقتصادية وفكرية بارزة.

شهدت المدينة تطورًا في مجالات النقل والمواصلات، مع إنشاء خطوط السكك الحديدية، والتوسعات العمرانية التي ربطت الأحياء القديمة بمناطق جديدة مثل سيدي بشر وميامي والعجمي. كما أُنشئت الجامعات والمعاهد والمراكز الثقافية التي ساهمت في تعزيز مكانتها كمدينة علم وفكر.

المعالم السياحية والثقافية الحديثة

الإسكندرية اليوم تضم عددًا هائلًا من المعالم التي تجمع بين القديم والحديث، وتشكل عنصر جذب هام للسياح والمهتمين بالثقافة:

• مكتبة الإسكندرية الجديدة: تم افتتاحها عام 2002 كإحياء لروح المكتبة القديمة، وتعد من أهم المراكز الثقافية في الشرق الأوسط، وتضم ملايين الكتب، وقاعات للمؤتمرات، ومتاحف ومعارض.

• قلعة قايتباي: بُنيت في القرن الخامس عشر على أنقاض منارة الإسكندرية القديمة، وتُعد واحدة من أبرز القلاع البحرية في العالم.

• كورنيش الإسكندرية: يمتد على عشرات الكيلومترات، ويُعد وجهة رئيسية للتنزه والترفيه.

• المتحف اليوناني الروماني: يعرض آثارًا نادرة من العصرين اليوناني والروماني، ويعكس الطابع التاريخي المتعدد للمدينة.

• مسجد المرسي أبو العباس: أحد أهم المعالم الدينية في المدينة، ويجذب الزوار بتصميمه الإسلامي الفريد.

التركيبة السكانية والتعدد الثقافي

تتميز الإسكندرية بتركيبة سكانية فريدة تجمع بين المصريين من مختلف المحافظات، إلى جانب جاليات أجنبية كانت تقيم فيها منذ عقود، خصوصًا في مناطق مثل محطة الرمل والمنشية ووسط المدينة. وقد انعكس هذا التنوع في العمارة والمطبخ المحلي والأنشطة الثقافية.

كما لعبت الجالية اليونانية واليهودية دورًا كبيرًا في الحياة الاقتصادية والثقافية للمدينة حتى منتصف القرن العشرين، ولا تزال آثارهم ماثلة في المعمار والكنائس والمعابد والمقابر القديمة.

الاقتصاد والصناعة

الإسكندرية تُعد واحدة من أبرز المراكز الاقتصادية في مصر، إذ تضم ثاني أكبر ميناء بحري في البلاد بعد ميناء بورسعيد، وتُعد مركزًا صناعيًا ضخمًا في مجالات مثل البتروكيماويات، والصناعات الغذائية، والنسيج، والإلكترونيات.

تحتضن المدينة منطقة صناعية واسعة في برج العرب والعامرية، وتستقطب استثمارات محلية وأجنبية بفضل قربها من طرق النقل والموانئ. كما تضم المدينة العديد من المصانع والمجمعات الإنتاجية التي تسهم في رفع الناتج المحلي.

الزراعة والبيئة الساحلية

رغم طابعها الحضري والصناعي، تلعب الإسكندرية دورًا مهمًا في الزراعة، خصوصًا في المناطق المحيطة بها مثل النوبارية وبرج العرب، حيث تنتشر زراعة المحاصيل التصديرية مثل العنب والطماطم والفراولة. وتعتمد المدينة على عدد من الترع والمصادر المائية المرتبطة بفرع رشيد ونهر النيل.

أما من الناحية البيئية، فالإسكندرية تواجه تحديات بيئية مثل التغير المناخي وارتفاع منسوب البحر، ما يهدد بعض مناطقها المنخفضة. وتعمل الدولة على تنفيذ مشروعات لحماية الشواطئ، منها إنشاء الحواجز الصخرية وتطوير البنية التحتية الساحلية.

الجدول التالي يوضح أهم المعالم السياحية ومميزاتها في الإسكندرية

الحياة الثقافية والفنية

الإسكندرية معروفة بنشاطها الثقافي والفني، حيث تقام بها مهرجانات فنية وأدبية، مثل مهرجان الإسكندرية السينمائي، ومهرجان الصيف الدولي في مكتبة الإسكندرية. كما تضم عددًا من المسارح مثل مسرح سيد درويش (الأوبرا)، والمراكز الثقافية التابعة لسفارات دول أجنبية.

وقد خرج من الإسكندرية عدد كبير من رموز الفن والأدب والموسيقى، مثل الشاعر كفافيس، والموسيقار سيد درويش، والكاتب يوسف إدريس، والروائي إدوارد الخراط، ما يرسخ مكانتها كحاضنة للإبداع والابتكار.

الختام

تبقى الإسكندرية عروس البحر المتوسط، مدينة متعددة الطبقات، تجمع بين عبق الماضي وروح الحداثة، وتُعد مناراتها الثقافية والتاريخية امتدادًا لرسالة الانفتاح والتعايش التي ميّزت تاريخها منذ تأسيسها. إنها ليست مجرد مدينة ساحلية جميلة، بل هي كيان حيّ نابض بالتاريخ والثقافة والطموح، يشكل نموذجًا فريدًا للمدن المتوسطية التي تنجح في التوفيق بين تراثها العريق وتطلعاتها المستقبلية.

المراجع

1. مصطفى، حسين. الإسكندرية: منارة المتوسط. القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، 2016.

2. UNESCO. “Bibliotheca Alexandrina: A Center of Knowledge and Culture.” 2022.