كتاب “الأيام” لطه حسين: مرآة السيرة الذاتية ووجدان النهضة العربية

يُعد كتاب “الأيام” أحد أعمدة الأدب العربي الحديث، وهو السيرة الذاتية الكلاسيكية التي صاغها عميد الأدب العربي طه حسين بأسلوب فريد يزاوج بين الحكي الذاتي والتأمل الفلسفي والسرد الأدبي. لا يقتصر هذا العمل على كونه مجرد سيرة ذاتية، بل يمتد ليشكل وثيقة فكرية واجتماعية وتاريخية ترصد ملامح الحياة الثقافية والسياسية والدينية في مصر في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، من خلال مرآة الكاتب الذي عاش فصولها بكل جوارحه.

يتكون هذا العمل من ثلاثة أجزاء، ويُروى فيه طه حسين حكايته منذ الطفولة المبكرة وحتى وصوله إلى قمة مجده الأدبي والأكاديمي. تميز “الأيام” بأسلوبه السردي الرصين، الذي لا يخلو من الحزن والشجن، ولا من السخرية الخفيفة والذكاء النقدي العميق، مما يجعل من قراءته تجربة وجدانية فكرية لا تُنسى.

السياق التاريخي والفكري

وُلد طه حسين عام 1889 في قرية “الكيلو” بمحافظة المنيا في صعيد مصر، في بيئةٍ ريفية تقليدية محافظة. أصيب بالعمى في سنٍّ مبكرة نتيجة الجهل الطبي والإهمال، وهو ما ترك أثراً عميقاً في تكوينه النفسي والفكري، وساهم في تشكيل رؤيته الخاصة للواقع. لم يكن فقدان البصر عائقًا أمام طموحه العلمي والثقافي، بل صار دافعًا لقهر المستحيل، وتحقيق الذات من خلال المعرفة.

كتب طه حسين “الأيام” في فترةٍ شهدت تحولات كبيرة في الحياة الفكرية والسياسية في مصر. فقد كانت مصر تخوض صراعًا داخليًا من أجل الاستقلال، وكانت النخبة المثقفة تسعى إلى التحرر من سلطة التقليد والانفتاح على الفكر الأوروبي. في هذا السياق، يأتي “الأيام” ليرصد من خلال التجربة الذاتية لصاحبه مأساة الإنسان الشرقي في صراعه بين الجمود والانفتاح، بين العقل والنقل، وبين القدر والطموح.

الجزء الأول: الطفولة والبدايات

يتناول الجزء الأول من “الأيام” مرحلة الطفولة، وتحديدًا حياة طه حسين في قريته الصغيرة، وسط عائلة كبيرة. يظهر في هذا الجزء وصفٌ دقيق لحياة الريف المصري، بعاداته وتقاليده، وتعليم الكتّاب، والصرامة التي كانت تُمارَس على الأطفال في تعليم القرآن الكريم. وقد صوّر طه حسين في هذا الجزء بدقة شعوره بالغربة والحرمان الناتج عن فقدانه البصر، وانعكاسات ذلك على نفسيته، وعلاقته بأسرته، وخصوصًا والدته التي كان لها الأثر الكبير في حياته العاطفية والروحية.

يبرز في هذا الجزء أيضًا شغفه بالعلم والمعرفة، ونفوره من أساليب التعليم التقليدية التي تقوم على الحفظ والتلقين والعقاب الجسدي، مما ساهم في بناء شخصيته النقدية لاحقًا.

الجزء الثاني: القاهرة والأزهر

ينتقل بنا طه حسين في الجزء الثاني إلى مرحلة الشباب، حيث يسافر إلى القاهرة من أجل الالتحاق بالأزهر الشريف. يشكّل هذا الانتقال تحولًا جذريًا في حياته، فقد واجه في البداية صدمة المدينة الصاخبة، لكنه سرعان ما اندمج فيها، وبدأ رحلته الطويلة مع طلب العلم.

يوثق هذا الجزء تجربته في الأزهر، والجمود العلمي الذي كان يهيمن عليه في تلك الحقبة، حيث تُدرّس العلوم وفق مناهج تقليدية تعتمد على الحفظ دون فكر، وعلى التلقين دون تحليل. وقد انتقد طه حسين هذا النمط من التعليم نقدًا لاذعًا، وبيّن كيف أن المؤسسات الدينية كانت تساهم في تكريس الجهل باسم الدين، معتمدةً على شيوخ يعادون العقل والحرية.

لكن وسط هذا الجمود، وجد بصيص أمل في بعض الأساتذة المستنيرين الذين فتحوا له آفاق الفكر النقدي، وعرّفوه على الثقافة الغربية، ومبادئ المنطق، وأصول اللغة. وقد تزامنت دراسته بالأزهر مع بداية دراسته في الجامعة المصرية الحديثة، حيث بدأ يشعر بالتحرر من القيود الفكرية والدينية التي كبّلته طويلًا، وانفتح على الفكر الأوروبي والفلسفة اليونانية، واطلع على أعمال كبار المفكرين الغربيين مثل ديكارت، فولتير، روسو، وغيرهم.

الجزء الثالث: البعث الجديد والسفر إلى فرنسا

يشكّل الجزء الثالث تتويجًا لمسيرة طه حسين التعليمية والفكرية. ففي هذا الجزء، يسافر إلى فرنسا في بعثة دراسية، وهناك تبدأ مرحلة جديدة تمامًا من حياته، حيث عاش في باريس واطلع عن قرب على أنظمة التعليم المتقدمة، والنهضة الأوروبية، وأفكار التنوير، ومبادئ الحداثة.

لقد كانت تجربة باريس بالنسبة لطه حسين بمثابة “ولادة جديدة”، حيث تخلّص من القيود الفكرية والدينية والاجتماعية التي كبّلته في الأزهر، وبدأ في تكوين رؤيته الخاصة، التي تمزج بين العقلانية الغربية والتراث العربي، في محاولة لإحياء مشروع فكري تنويري عربي.

في باريس، تعرّف على زوجته الفرنسية “سوزان”، التي لعبت دورًا حاسمًا في حياته الشخصية والفكرية، وكانت عينًا له يرى بها، وصوتًا يقرأ له، ورفيقة طريق دعمته حتى آخر حياته. وقد وصف تأثيرها على حياته بأنه أعظم من أن يُحكى، بل هو “جزء من المعجزة التي جعلت الحياة ممكنة”.

الأبعاد النفسية والفكرية في “الأيام”

إلى جانب كونه سردًا لسيرة ذاتية، فإن “الأيام” يغوص عميقًا في النفس البشرية، ويعالج مواضيع فلسفية وإنسانية شديدة العمق، مثل العمى، والعزلة، والاغتراب، والمعرفة، والتحرر، والشك، والإيمان. استطاع طه حسين أن يعبّر عن تجربته الحسية والنفسية بلغة تجمع بين البساطة والعمق، بين الشاعرية والدقة التحليلية، ما يجعل الكتاب أحد أرقى نماذج الأدب السيري والفلسفي في آنٍ معًا.

إن العمى في “الأيام” ليس مجرّد عجز جسدي، بل يتحول إلى رمز للاغتراب والبحث عن النور الداخلي، وعن المعرفة التي تعوّض النقص البصري. كما أن الحرمان الذي عاشه الكاتب في طفولته وصباه لم يجعله كارهًا للحياة، بل دفعه إلى التفوق والتحدي. وقد جسّد طه حسين في سيرته الذاتية صورة الإنسان الذي ينتصر على مصيره من خلال الإيمان بالعلم والحرية.

البنية الأسلوبية والسردية

تميّز “الأيام” بأسلوبه الفريد في السرد، حيث اختار طه حسين أن يكتب بصيغة الغائب، فيخاطب ذاته وكأنه طرف ثالث، مما أضفى على النص مسحة من التجرّد والتأمل الموضوعي. كما أن اللغة المستخدمة في الكتاب تتسم بالعذوبة والوضوح والثراء، حيث يزاوج الكاتب بين اللغة العربية الكلاسيكية والانسيابية السردية الحديثة، فيخرج القارئ بانطباع جمالي وفكري في آن.

وقد حرص طه حسين على استخدام الاسترجاع الزمني والتنقل بين المشاعر والذكريات، مما أكسب السرد طابعًا دراميًا داخليًا عميقًا. إنه لا يكتفي بوصف الأحداث، بل يغوص في تأملها وتحليلها، ما يجعل كل تجربة يرويها مناسبة للتفكير والنقد الفلسفي والاجتماعي.

الأثر الثقافي والفكري

لا يمكن المبالغة في تقدير الأثر الذي تركه “الأيام” في الثقافة العربية. فقد كان هذا العمل بمثابة ثورة أدبية وفكرية، كسر بها طه حسين النمط التقليدي للكتابة الذاتية، وأدخل السيرة الذاتية إلى دائرة الإبداع الأدبي الجاد. كما أن صدق التجربة وعمق التحليل جعلا من “الأيام” مرجعًا هامًا لكل من يرغب في فهم تحولات المجتمع المصري في القرن العشرين، وطبيعة الصراع بين الأصالة والمعاصرة.

وقد ألهمت “الأيام” أجيالًا من المفكرين والكتّاب العرب، ليس فقط من حيث الأسلوب الأدبي، بل أيضًا في تبنّي الموقف النقدي من الواقع، والإيمان بقوة الإرادة والحرية الفردية، والاعتماد على العقل في فهم الدين والواقع.

جدول مقارنة بين المراحل الثلاث في كتاب “الأيام”