الأمان الوظيفي: أهميته، إيجابياته، والعوامل التي تؤثر عليه

يُعدّ الأمان الوظيفي أحد الركائز الأساسية التي تقوم عليها استمرارية المؤسسات وتحقيقها لمعدلات أداء مستقرة ومتقدمة. في ظل التغيرات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة التي يشهدها العالم، بات الأمان الوظيفي مطلباً أساسياً ليس فقط للموظفين، بل أيضاً للمؤسسات التي تبحث عن الاستقرار والنمو على المدى الطويل. يتجاوز مفهوم الأمان الوظيفي فكرة الاحتفاظ بالوظيفة فقط، ليشمل الإحساس بالثقة، والاستقرار النفسي، والقدرة على التخطيط المستقبلي من دون قلق دائم من فقدان مصدر الرزق.

يتمتع الأمان الوظيفي بتأثير بالغ على الصحة النفسية للفرد، وعلى الإنتاجية الجماعية للمؤسسات. كما يتداخل مع مجموعة من العوامل مثل نوع الصناعة، والأنظمة القانونية، والسياسات الحكومية، والقيادة الإدارية، والثقافة التنظيمية، ومستوى التعليم، والكفاءة، والابتكار المهني.

أولاً: تعريف الأمان الوظيفي

الأمان الوظيفي (Job Security) هو الحالة التي يشعر فيها الموظف بالثقة في استمرارية وظيفته دون تهديد مباشر بالفصل أو الإقصاء، وذلك نتيجة استقرار المؤسسة من الناحية الاقتصادية والتنظيمية، إلى جانب أداء الموظف وكفاءته في تنفيذ مهامه. يندرج هذا الشعور ضمن مقومات الرفاه المهني التي تسهم في تعزيز الرضا الوظيفي، والولاء للمؤسسة، والإبداع في بيئة العمل.

يتفاوت الأمان الوظيفي باختلاف نوع الوظيفة، طبيعة المؤسسة، والبيئة القانونية والاجتماعية التي تعمل بها. ففي بعض الدول أو القطاعات، يكون الأمان الوظيفي مضموناً نسبياً من خلال قوانين العمل والنقابات، بينما في بيئات أخرى قد يعتمد بدرجة كبيرة على النتائج والأداء.

ثانياً: أهمية الأمان الوظيفي

1. تعزيز الاستقرار النفسي والاجتماعي للموظفين

الأمان الوظيفي يقلل من القلق والتوتر الناتج عن الخوف من فقدان الوظيفة، وهو ما يُترجم إلى استقرار نفسي واجتماعي ينعكس إيجاباً على صحة الموظف وجودة حياته اليومية، خاصة في بيئات العمل التي تعتمد على الأداء التنافسي أو التي تمر بتغيرات تنظيمية مستمرة.

2. رفع الإنتاجية وتحسين الأداء

تشير العديد من الدراسات إلى أن الموظفين الذين يشعرون بالأمان الوظيفي يظهرون مستويات أعلى من الالتزام والانتماء، ما يؤدي إلى زيادة الإنتاجية وجودة العمل. الأمان الوظيفي يوفر بيئة تسمح بالتركيز الكامل على المهام دون الانشغال بمصير الوظيفة.

3. تقوية الولاء التنظيمي والانتماء المؤسسي

عندما يشعر الموظف بأن مكان عمله يوفر له أماناً مهنياً، يصبح أكثر ولاءً للمؤسسة، مما يقلل من معدلات الدوران الوظيفي ويزيد من استقرار الكفاءات داخل المنظمة، وهو عامل أساسي في بناء ثقافة تنظيمية ناجحة ومستدامة.

4. تمكين الموظفين من التخطيط المستقبلي

الأمان الوظيفي يُمكّن الأفراد من التخطيط لحياتهم بشكل أكثر ثقة، مثل اتخاذ قرارات طويلة الأجل تتعلق بالزواج، التعليم، شراء العقارات أو تأسيس الأسرة. عدم وجود هذا الأمان يعرقل هذه القرارات ويؤثر على الرفاه العام للمجتمع.

5. الحد من التكاليف التنظيمية المرتبطة بالاستقالات والاستبدالات

في بيئات العمل التي تفتقر إلى الأمان الوظيفي، تكون معدلات الاستقالات مرتفعة، مما يُجبر المؤسسات على تحمل تكاليف عالية للتوظيف، والتدريب، والتأهيل. الأمان الوظيفي يساهم في تقليل هذه التكاليف على المدى الطويل.

ثالثاً: إيجابيات الأمان الوظيفي

رابعاً: العوامل المؤثرة في الأمان الوظيفي

يتأثر الأمان الوظيفي بمجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي تختلف باختلاف البيئة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. هذه العوامل تتداخل معاً لتُحدّد مستوى الأمان الذي يشعر به الموظف:

1. الوضع الاقتصادي العام

الأزمات الاقتصادية، التضخم، وتراجع النمو يؤثر سلباً على الأمان الوظيفي، حيث قد تضطر المؤسسات إلى تسريح الموظفين أو تقليص النفقات. على النقيض، الاقتصاد المزدهر يوفر فرصاً وظيفية أكبر واستقراراً نسبياً في القطاعات المختلفة.

2. نوع الصناعة والقطاع

بعض الصناعات توفّر أماناً وظيفياً أعلى من غيرها. فمثلاً، القطاع العام يتمتع عادةً بمستوى أمان أعلى من القطاع الخاص، والصناعات الحيوية مثل الصحة والتعليم والتقنية قد تكون أكثر أماناً من الصناعات المتقلبة مثل السياحة أو الترفيه.

3. السياسات الحكومية والتشريعات

تلعب قوانين العمل والضمانات النقابية دوراً مهماً في تحديد مستوى الأمان الوظيفي. في الدول التي تحمي الموظفين من الفصل التعسفي وتفرض شروطاً صارمة على الاستغناء عن العمال، يكون الأمان أعلى.

4. الأداء الفردي والكفاءة المهنية

الموظفون ذوو الأداء العالي والمهارات المتقدمة يتمتعون غالباً بدرجة أكبر من الأمان، نظراً لأهميتهم للمؤسسة وصعوبة استبدالهم. الكفاءة والمرونة في مواكبة التحولات التقنية تُعدّ من أهم ضمانات الأمان الذاتي في السوق الحديث.

5. ثقافة المؤسسة ونمط القيادة

الثقافات المؤسسية التي تكرّس الشفافية، المشاركة، والتقدير العادل للأداء تخلق بيئة آمنة ومستقرة للموظفين. بالمقابل، المؤسسات ذات القرارات المفاجئة أو غير المدروسة تقلل من شعور الأمان بين الموظفين.

6. التحول الرقمي والأتمتة

التغيرات التكنولوجية السريعة تؤثر على الأمان الوظيفي، خاصةً في الوظائف التقليدية المعرضة للاستبدال بالروبوتات أو الذكاء الاصطناعي. الموظف الذي لا يُطوّر مهاراته الرقمية قد يفقد أمانه الوظيفي حتى لو كان أداؤه جيداً.

7. المرونة التنظيمية والاستراتيجية

المؤسسات القادرة على التكيف مع التغيرات وتحقيق التوازن بين متطلبات السوق والموارد البشرية تستطيع المحافظة على وظائفها واستقرار موظفيها.

8. التعليم والتدريب المستمر

الموظف الذي يستثمر في تعليمه وتطوير مهاراته يمتلك فرصاً أكبر للاستمرار في سوق العمل، وهو ما يُشكل دعامة أساسية للأمان الوظيفي الذاتي، حتى في حال فقدان الوظيفة الحالية.

خامساً: الأمان الوظيفي في عصر ما بعد الجائحة

جائحة كوفيد-19 شكّلت نقطة تحول جوهرية في نظرة المؤسسات والأفراد إلى الأمان الوظيفي. حيث تبيّن أن العديد من الوظائف غير مؤمّنة كما كان يُعتقد، وانخفضت معدلات الأمان في معظم القطاعات بسبب عمليات الإغلاق، وتسريح العمال، وتحول بيئات العمل.

أدى هذا التحول إلى زيادة الاعتماد على نماذج العمل المرنة، والعمل عن بُعد، والعمل الحر، مما أعاد تعريف مفاهيم الأمان الوظيفي التقليدي. في الوقت نفسه، بات الموظفون بحاجة إلى تطوير مهارات متعددة ومتجددة، واستباقية في تعلم التقنيات الجديدة من أجل تعزيز أمنهم المهني.

سادساً: سُبل تعزيز الأمان الوظيفي

تستطيع المؤسسات أن تعمل على تقوية الأمان الوظيفي لموظفيها من خلال مجموعة من الاستراتيجيات والإجراءات التنظيمية والإنسانية:

• وضع خطط استراتيجية طويلة الأمد لتقليل التذبذب في التوظيف.

• تقديم تدريبات دورية لتأهيل الموظفين لمتغيرات السوق.

• تعزيز ثقافة التواصل الداخلي والشفافية في اتخاذ القرارات.

• تقدير الأداء وتحفيز الموظفين مادياً ومعنوياً.

• توسيع شبكات الأمان الاجتماعي والتأمينات.

• إتاحة فرص الترقية والتطوير الوظيفي.

من جهة أخرى، يمكن للأفراد أنفسهم تعزيز أمانهم الوظيفي من خلال:

• التعلم المستمر وتطوير المهارات.

• التحلي بالمرونة والتكيف مع التغيير.

• بناء شبكة علاقات مهنية قوية.

• امتلاك أكثر من مصدر دخل إن أمكن.

• فهم حقوقهم القانونية.

سابعاً: الأمان الوظيفي في المستقبل

في ظل التغيرات التكنولوجية والمجتمعية المتسارعة، لم يعد الأمان الوظيفي مفهوماً مرتبطاً بوظيفة واحدة مدى الحياة. بل أصبح مرتبطاً بقدرة الفرد على مواكبة المتغيرات، والاحتفاظ بقيمة مهنية عالية تؤهله للانتقال من وظيفة إلى أخرى دون انقطاع طويل أو فقدان للدخل.

يُتوقع أن تتزايد أهمية المهارات القابلة للنقل (Transferable Skills) مثل التفكير النقدي، والقيادة، والاتصال الفعّال، والإبداع، إلى جانب المهارات التقنية التخصصية. الأمان الوظيفي في المستقبل سيكون مرهوناً بالقدرة على التكيف والتعلم مدى الحياة.

المصادر:

• Greenhalgh, L., & Rosenblatt, Z. (1984). Job Insecurity: Toward Conceptual Clarity. Academy of Management Review.

• International Labour Organization (ILO) Reports on Employment and Job Security.