رواية “الأعمال المائية” لإي. إل. دكتوروف: رحلة إلى مدينة نيويورك ما بعد الحرب الأهلية
في صباح ممطر من عام 1871، وعلى طول شارع برودواي في الجزء السفلي من مانهاتن، يواجه الشاب مارتن بيمبرتون مشهداً غير متوقع. ففي أحد العربات التي تجرها الخيول، يرى مجموعة من الرجال المسنين يرتدون ملابس سوداء، أحدهم يبدو له كوالده الذي كان يظن أنه قد مات ودفن. هكذا تبدأ الرواية الجديدة المذهلة لإي. إل. دكتوروف، “الأعمال المائية”، التي تقدم لنا صورة مفصلة وبارعة لمدينة نيويورك ما بعد الحرب الأهلية.
تُعَدُّ “الأعمال المائية” رواية تتسم بطابع تاريخي غامض وواقعي، تتناول فترة مظلمة من تاريخ نيويورك. تحت سطح المدينة، التي تتفاخر بطموحها وحداثتها، تختبئ عوالم من الفساد، والمعاناة، والغرابة. يرسم دكتوروف لوحةً نابضة بالحياة لمدينة تتصارع مع آثار الحرب الأهلية، حيث يتجول المحاربون الجرحى في الشوارع، ويكافح بائعو الصحف من أجل كسب لقمة العيش، وتدير عصابة تويد المدينة لتحقيق مصالحها الخاصة. في قلب هذه المدينة المليئة بالثراء اللامع والجهل الضعيف، تُعَايِش رواية دكتوروف معاناة الطبقات الفقيرة وصراعاتها.
تُقدِّم الرواية لنا مدينة نيويورك التي نعرفها ونتعرف عليها من زاوية مختلفة تماماً. إنها مدينة أشباح تقف كصورة سلبية بانورامية لمدينة نيويورك المعاصرة، حيث يتم عكس الأضواء والظلال، وتنعكس الفصول بطريقة مدهشة. من خلال عيون بيمبرتون، الذي يسعى عبثاً لتتبع العربة الغامضة التي تحمل الرجال المسنين، يُدخِلنا دكتوروف إلى مدينة غامضة ومريبة، مليئة بالأسرار والخفايا.
يروي القصة مكلفاين، المحرر في الصحيفة التي يكتب لها بيمبرتون مراجعاته بين الحين والآخر. بعد اختفاء بيمبرتون، ينطلق مكلفاين في رحلة للكشف عن مصير موظفه الغامض. تتكشف الطبقات واحدة تلو الأخرى، كاشفة لنا مدينة نيويورك أكثر تعقيداً وابتكاراً مما هي عليه في الواقع، وهي مدينة تعيش بملء حيويتها التكنولوجية التي تشمل طرق النقل بالمياه، وإنارة الشوارع بالغاز، والقطارات التي تزمجر في شوارعها، والتلغراف الذي يهمس عبر الأسلاك الهوائية، والمطابع السريعة التي تطبع الآلاف من الصحف بسعر زهيد.
تجمع الرواية بين التاريخ والخيال، حيث تتجلى مدينة نيويورك في شكلها العصري والمتباهى، لكنها في الوقت ذاته، تبقى مسرحاً لغرائز قديمة وبديعة، تذكّرنا بجوانب المدينة المظلمة والتي تشبه كابوساً أو حلمًا. “الأعمال المائية” هي نموذج حي للعبقرية والجنون في مدينة تعكس هاتين الصفتين بوضوح.
إي. إل. دكتوروف، الكاتب المشهور بتقديمه للقصص التي تجمع بين الواقعية والتاريخ، يواصل في “الأعمال المائية” إبداعه الأدبي الفريد. من خلال سرده المتقن والتفاصيل الدقيقة، يقدم لنا صورة عميقة ومعقدة لمدينة نيويورك التي كانت مهد الثورة الصناعية والتقدم التكنولوجي، وفي ذات الوقت، مكاناً تنمو فيه الأسرار والأخطاء البشرية. الرواية تُعدّ إضافة بارزة إلى أعمال دكتوروف الأدبية، وتُعَزِّز من مكانته ككاتب يتميز بتقديم أعمال تتسم بالذكاء والإثارة والقدرة على إشعال خيال القارئ.
في النهاية، تُجسِّد “الأعمال المائية” رحلة إلى قلب مدينة نيويورك التاريخية، حيث تمزج بين أحداث معاصرة ووقائع تتجاوز الزمن، وتقدم لنا تحليلاً عميقاً لروح المدينة التي تسعى دائماً إلى مواكبة الحداثة بينما تعيش في خضم الفوضى والأسرار التي لا تنتهي.