الآثار النفسية للحروب والصراعات: تحليل شامل للأضرار الممتدة عبر الأجيال

تُعد الحروب والصراعات من أكثر الظواهر البشرية تدميراً للنفس والهوية، فهي لا تكتفي بتمزيق الأوطان وتهجير الشعوب، بل تُخلِّف ندوباً غائرة في النفس الإنسانية، تظل تنزف لعقود طويلة بعد توقف إطلاق النار. تمتد الآثار النفسية للحروب إلى كل جوانب الحياة العقلية والعاطفية، وتطال جميع الفئات العمرية، خاصة الفئات الأضعف مثل الأطفال والنساء وكبار السن. في هذا المقال المطوّل، سيتم تناول الجوانب المختلفة للآثار النفسية الناتجة عن الحروب والصراعات، مع الاستناد إلى الأدبيات العلمية، والتجارب الميدانية، والرصد التاريخي لضحايا الحروب في القرن العشرين والحادي والعشرين.

أولاً: صدمة الحرب أو “اضطراب ما بعد الصدمة” (PTSD)

يُعتبر اضطراب ما بعد الصدمة من أبرز وأكثر الحالات النفسية شيوعاً بين الناجين من الحروب. يظهر هذا الاضطراب نتيجة التعرض لمواقف صادمة كالمجازر، القصف العشوائي، فقدان الأقارب، أو مشاهدة الموت عن قرب. يتسم هذا الاضطراب بأعراض مقلقة تشمل:

• نوبات من القلق الحاد.

• ذكريات متكررة مزعجة (flashbacks).

• كوابيس ليلية.

• تجنب أي تذكير بالأحداث المؤلمة.

• الشعور بالانفصال عن الواقع أو التبلّد العاطفي.

ويُلاحظ أن نسبة الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة في مناطق الحروب تتجاوز 30% بين المدنيين، وقد تصل إلى 70% بين الجنود العائدين من الجبهات، حسب دراسات صادرة عن منظمة الصحة العالمية.

ثانياً: الاكتئاب وفقدان المعنى

الحرب تُحدث زلزلة في بنية الوعي الإنساني، حيث تنهار القيم، ويتلاشى الإحساس بالأمان، ويُستبدل الأمل في المستقبل بيأس قاتل. هذه العوامل تؤدي بشكل مباشر إلى الإصابة بالاكتئاب، وهو أحد أخطر الاضطرابات النفسية التي قد تؤدي إلى الانتحار.

تشمل مظاهر الاكتئاب ما يلي:

• فقدان الرغبة في الحياة.

• الانعزال الاجتماعي.

• ضعف الشهية واضطرابات النوم.

• الشعور المستمر بالحزن والذنب.

• فقدان الدافع واللامبالاة تجاه المستقبل.

وفي المجتمعات التي تمر بحروب مطوّلة، يتحول الاكتئاب إلى ظاهرة جمعية، تُغيّر المزاج العام وتؤثر على الإنتاجية والروابط الاجتماعية وحتى النمو الاقتصادي.

ثالثاً: اضطرابات القلق والرهاب الاجتماعي

يتعرض ضحايا الحروب لصدمات مفاجئة ومواقف خطيرة تؤدي إلى خلل دائم في الإحساس بالأمان. هذا يؤدي إلى نمو اضطرابات القلق، التي تشمل:

• القلق المعمم (GAD).

• نوبات الهلع المفاجئة.

• الرهاب الاجتماعي.

• الوسواس القهري الناتج عن الخوف من الموت أو المرض.

وتمتد هذه الاضطرابات لتؤثر على نوعية الحياة اليومية، وتُقيّد قدرة الفرد على العودة لحياة طبيعية، ما يزيد من معدلات البطالة والعجز.

رابعاً: تأثير الحرب على الأطفال

الأطفال هم الفئة الأكثر هشاشة وتأثراً بالحروب، إذ يُعانون من اضطرابات نفسية شديدة يمكن أن تستمر معهم طوال حياتهم ما لم يتم التدخل المبكر لعلاجها.

تشمل التأثيرات النفسية للحرب على الأطفال:

• تأخر في النمو العقلي والانفعالي.

• اضطرابات في النطق والتعلم.

• التبول الليلي اللاإرادي.

• فرط النشاط أو الخمول التام.

• ضعف في تكوين العلاقات الاجتماعية.

• سلوك عدواني أو انعزالي مفرط.

وقد أظهرت دراسات في مناطق النزاع مثل سوريا واليمن والسودان أن ملايين الأطفال يعيشون في حالة من “الصدمة المزمنة”، ويظهر ذلك في رسوماتهم ولعبهم وسلوكهم العام.

خامساً: الانهيار الأسري والعلاقات الاجتماعية

الحرب تضع العلاقات الاجتماعية تحت ضغط هائل، حيث تُفكك الأسر بسبب الفقد أو التهجير، ويؤدي غياب المعيل أو فقدان أحد الوالدين إلى اضطرابات سلوكية شديدة لدى الأبناء. كذلك، تُضعف الحرب الشعور بالثقة بين أفراد المجتمع، خاصة عندما تترافق مع انقسامات طائفية أو عرقية.

ومن الآثار الشائعة:

• تفكك الروابط العائلية.

• ازدياد حالات العنف الأسري.

• تدهور في العلاقات الزوجية.

• عزلة اجتماعية طويلة الأمد.

سادساً: الإدمان والسلوكيات التدميرية

في محاولاتهم للهروب من الذكريات المؤلمة، يلجأ بعض ضحايا الحرب إلى تعاطي المواد المخدرة أو الكحوليات. كذلك تظهر سلوكيات تدميرية مثل الانتحار، إيذاء النفس، والمشاركة في الجريمة المنظمة أو العصابات المسلحة.

وقد أظهرت دراسات في أفغانستان والعراق أن نسبة كبيرة من المقاتلين السابقين يعانون من إدمان المواد الأفيونية نتيجة الأثر النفسي العميق للحرب.

سابعاً: الاغتراب والهوية المنهارة

الحرب تُفقد الفرد ليس فقط وطنه المادي، بل أيضاً وطنه النفسي. يمر اللاجئون والمشردون داخلياً بحالة من “الاغتراب الوجودي”، حيث يشعرون بأنهم بلا جذور أو هوية واضحة. هذا يؤدي إلى:

• شعور دائم بالقلق والضياع.

• فقدان الانتماء الثقافي والاجتماعي.

• ضعف الشعور بالذات.

وفي حالات كثيرة، تؤدي هذه الحالة إلى الانفصال عن الواقع، وظهور أمراض نفسية شديدة مثل الذهان أو الانفصام.

ثامناً: الآثار النفسية الممتدة عبر الأجيال

لا تتوقف الأضرار النفسية للحرب عند الجيل الأول فقط، بل تنتقل إلى الأجيال التالية، فيما يُعرف علمياً بـ”الصدمة العابرة للأجيال” (Transgenerational Trauma). يولد الأطفال في بيئة مشبعة بالخوف والحزن والصمت والقلق، ويتأثرون بسلوكيات الوالدين الذين عايشوا الحرب، حتى دون أن يفهموا أسبابها.

تظهر هذه الآثار في:

• اضطرابات سلوكية غير مبررة.

• عدوانية مفرطة أو انطواء شديد.

• فشل في بناء علاقات صحية.

جدول يوضح الفروق بين التأثيرات النفسية حسب الفئات العمرية

تاسعاً: تحديات الرعاية النفسية في مناطق الصراع

رغم الكارثة النفسية الواسعة التي تُخلّفها الحروب، إلا أن غالبية المناطق المتأثرة لا تتوفر فيها خدمات الصحة النفسية. ويُعزى ذلك إلى:

• ضعف البنية التحتية الصحية.

• نقص في عدد الأطباء النفسيين والمعالجين.

• وصمة العار المرتبطة بالأمراض النفسية.

• أولوية المساعدات الإنسانية للإغاثة الجسدية والغذائية.

وتوصي منظمة الصحة العالمية بدمج الدعم النفسي في خطط الاستجابة الإنسانية، إلا أن التقدم في هذا المجال لا يزال بطيئاً.

عاشراً: استراتيجيات العلاج والدعم النفسي

التعافي النفسي من الحرب ممكن لكنه يتطلب جهوداً منسقة ومستمرة على مستويات متعددة. من أبرز أدوات العلاج المستخدمة:

• العلاج السلوكي المعرفي (CBT).

• العلاج الجمعي والتشاركي.

• الفن والموسيقى كوسائل تعبيرية علاجية.

• برامج دعم الأمهات والأطفال.

• تأهيل الجنود السابقين وإعادة دمجهم في المجتمع.

• الدعم المجتمعي والديني والثقافي.

إن إعادة بناء الإنسان بعد الحرب لا تقل أهمية عن إعادة بناء البنية التحتية، فالسلام الحقيقي يبدأ من داخل الفرد، حيث الاستقرار النفسي هو حجر الأساس لأي مجتمع مزدهر.

المراجع

1. World Health Organization (WHO), “Mental health in emergencies”, 2023

2. American Psychiatric Association, “Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders (DSM-5)”, 2013