هل تشعر بأن والديك “دقة قديمة”؟ نظرة اجتماعية وثقافية ونفسية معمّقة

في زمن تتسارع فيه التحوّلات التكنولوجية والاجتماعية، وتتشكل فيه مفاهيم جديدة عن الحياة والعلاقات والهوية، يكبر جيل الأبناء وهو يواجه فجوة متزايدة في التصورات والقيم والسلوكيات مقارنة بجيل الآباء. من أكثر العبارات التي تتردد على ألسنة كثير من المراهقين والشباب اليوم عند الحديث عن آبائهم وأمهاتهم: “إنهم دقة قديمة”. عبارة تحمل في طيّاتها قدراً من السخرية والرفض، وربما شيئاً من الغضب المكتوم أو الاستغراب الصامت.

هذا المقال يتناول هذه الظاهرة من منظور علمي واجتماعي وثقافي ونفسي، لفهم أبعادها العميقة وتحليل أسبابها وجذورها، بعيداً عن التنميط أو الحكم القيمي السطحي.

أولاً: ما الذي تعنيه عبارة “دقة قديمة”؟

عبارة “دقة قديمة” في السياق الشعبي العربي تشير إلى شخص مازال متمسكاً بأساليب حياة أو أفكار أو سلوكيات كانت سائدة في الماضي ولم تعد تتماشى مع روح العصر. في الثقافة الشبابية، تُستخدم العبارة غالباً لوصف من يبدو “متأخراً” عن ركب الحداثة أو غير منفتح على التحولات المعاصرة في طريقة التفكير أو أنماط المعيشة.

حين يُقال عن أحد الوالدين إنه “دقة قديمة”، فإن ذلك يحمل دلالات على:

• رفض التكنولوجيا الحديثة أو التخوّف منها.

• التمسك بالعادات والتقاليد دون مساءلة.

• عدم تقبّل الأفكار الجديدة في التربية أو العلاقات أو الملبس والمظهر.

• الالتزام بنمط حياة صارم أو محافظ، يُنظر إليه على أنه تقييد لحريّة الأبناء.

• الميل إلى فرض السلطة بأساليب قديمة (الأوامر، العقاب، التوبيخ).

لكن هذا الوصف في جوهره لا يتعلّق فقط بأسلوب حياة مختلف، بل هو انعكاس لتوتر عميق بين جيلين يرى كل منهما العالم من منظوره الخاص.

ثانياً: الجذور الثقافية والاجتماعية للفجوة بين الأجيال

1. تسارع التغيرات في زمن التكنولوجيا

أحد أبرز سمات العصر الراهن هو التسارع غير المسبوق في التغيّر التكنولوجي. جيل الأبناء وُلِد في عالم الهواتف الذكية، والذكاء الاصطناعي، والإنترنت، والتواصل الفوري، بينما نشأ جيل الآباء في عوالم أكثر بطئاً واستقراراً. لم تكن المعلومات متاحة بضغطة زر، ولم تكن العلاقات تُبنى على “إعجاب” أو “متابعة”، بل تطلّبت وقتاً وجهداً وتواصلاً وجاهياً.

هذا التفاوت يجعل الآباء يبدون – من وجهة نظر الأبناء – وكأنهم “خارج اللعبة”، عاجزون عن فهم ما يجري في الواقع الافتراضي الذي أصبح يُشكّل جزءاً كبيراً من واقع الأبناء.

2. الاختلاف في القيم والتصورات

جيل الآباء نشأ في بيئة تميل إلى الامتثال، حيث كان احترام السلطة، سواء كانت الأبوية أو التعليمية أو الدينية، يُعدّ من الثوابت. في المقابل، نشأ الأبناء في بيئة تُشجّع التعبير عن الرأي، والتمرد على القوالب، والسعي نحو الحرية الفردية. وهذا التناقض يولّد توتراً قائماً على تصادم بين القيم التقليدية والمحافظة، والقيم الحديثة ذات الطابع الفرداني والتحرري.

3. تحوّلات في أنماط التربية

قديماً، كان مفهوم التربية يرتكز على الطاعة والانضباط وربما العقاب البدني أو التوبيخ العلني، بينما أصبحت التربية الحديثة أكثر حساسية لاحتياجات الطفل النفسية، وتشجّع الحوار والمصاحبة والاستماع. لذا، حين يُمارس الأبوان دورهما وفق الأساليب القديمة، ينظر الأبناء إلى ذلك على أنه “تخلّف”، فيصِفونهم بأنهم “دقة قديمة”.

ثالثاً: السياق النفسي للشعور بالاختلاف

1. الحاجة إلى الاستقلالية والهوية

في مرحلة المراهقة والشباب، يسعى الفرد إلى بناء هويته المستقلة عن الأهل. هذه الحاجة النفسية غالباً ما تتجلّى في الرغبة في الاختلاف والتمرد ورفض ما يُمثّله الآباء، ليس بالضرورة لأن ذلك مرفوض في جوهره، بل لأنه يعوق استقلالية الذات في أعين الشاب أو الفتاة.

2. تشكُّل تصوّرات مشوّهة بسبب المقارنات

بسبب الانفتاح الكبير على وسائل التواصل، يُقارن الأبناء أهلهم بأهل الآخرين، أو حتى بالشخصيات العامة والمؤثرين الذين يقدّمون أنفسهم كـ “أهل متفهمين” أو “أصدقاء لأبنائهم”. هذه المقارنات غير المنصفة قد تعمّق الإحساس بأن الآباء ينتمون إلى زمن آخر “مُتخلف”، خصوصاً إذا لم يستطيعوا مواكبة هذه الصور المثالية المنتشرة.

3. صراعات داخلية غير مرئية

في العمق، قد يكون وصف الوالدين بأنهم “دقة قديمة” تعبيراً عن مشاعر لم يتمكن الأبناء من فهمها أو التعبير عنها بوضوح، مثل الإحباط، الحاجة إلى الاعتراف، أو حتى الرغبة في الحب والقبول. وغالباً ما تكون هذه المشاعر مموّهة خلف قناع التهكّم أو السخرية.

رابعاً: هل الآباء فعلاً “دقة قديمة”؟ إعادة نظر

من منظور علم الاجتماع والثقافة، يمكن القول إن كل جيل يبدو “قديم الطراز” في نظر الجيل الذي يليه. الأمر لا يقتصر على جيل معين، بل هو ظاهرة دورية تعود مع كل دورة من الزمن.

لكن، هل يعني ذلك أن قيم جيل الآباء ليست ذات صلة بالواقع؟ على العكس، كثير من تلك القيم تحمل في طيّاتها معاني عميقة:

• الصبر في العلاقات.

• احترام الأكبر.

• العمل الجاد والمثابرة.

• الاستمرارية العاطفية والالتزام.

• روح الجماعة مقابل النزعة الفردانية المفرطة.

ربما لا تكمن المشكلة في تلك القيم نفسها، بل في طريقة التعبير عنها وتطبيقها. حين تُفرض القيم بأساليب سلطوية أو دون نقاش، تفقد قوتها المعنوية وتُصبح عبئاً على الأبناء.

خامساً: كيف يقرأ الآباء أبناءهم؟

من منظور الآباء، كثيراً ما يُنظر إلى الأبناء على أنهم سطحيون، متسرّعون، يعيشون في عالم افتراضي مفصول عن الواقع، لا يتحملون المسؤولية، ولا يعرفون قيمة الأشياء. هذا الشعور يتفاقم حين يعبّر الأبناء عن رفضهم لتجارب الآباء وخبراتهم، ويقلّلون من شأنها.

الآباء أيضاً يشعرون بأنهم غير مرئيين في عالم الأبناء، وأنهم لم يعودوا مرجعية يُرجَع إليها، بل عائق يجب تجاوزه. وهذا قد يدفعهم إلى التشبّث بما يعرفونه ويفهمونه، أي أنماطهم القديمة، وكأنها قشة نجاة وسط طوفان الحداثة.

سادساً: بين “الحنين” و”الحداثة” – مقاربة تصالحية

ربما تكمن الإجابة في تجاوز ثنائية “دقة قديمة” و”حداثة مفرطة”، والبحث عن مقاربة تصالحية تُعيد التواصل بين الجيلين على أسس من الفهم المتبادل.

لا يكفي أن يُطلب من الآباء “مواكبة العصر”، كما لا يكفي أن يُطلب من الأبناء “العودة إلى الجذور”. ما يلزم هو:

• الاعتراف بشرعية الاختلاف: لكل جيل ظروفه وسياقه، ولا أحد يملك الحقيقة المطلقة.

• إعادة تعريف العلاقة: الأبناء ليسوا مشاريع يُعاد تشكيلها، والآباء ليسوا حراساً على الماضي.

• الحوار بين الأجيال: لا بمعنى المحاضرة أو التوبيخ، بل التبادل الصادق في الأفكار والتجارب.

سابعاً: جدول يقارن بين قيم جيل الآباء والأبناء

خاتمة

الشعور بأن الوالدين “دقة قديمة” هو شعور شائع في أوساط الشباب، وهو ليس جديداً في جوهره، وإن كان يأخذ مظاهر جديدة في عصر الرقمية والعولمة. هو انعكاس لتوتر بين جيلين يحمل كل منهما منظومته الخاصة من القيم والتجارب والتصورات.

في نهاية المطاف، لا ينبغي أن يُفهم الاختلاف بين الأجيال كصراع لا بدّ من حسمه، بل كفرصة لفهم أعمق للذات وللآخر، والاعتراف بأن الزمن لا يُقاس فقط بالتكنولوجيا والسرعة، بل أيضاً بالحكمة والتجارب المتراكمة.

المراجع:

1. Bauman, Zygmunt. Liquid Modernity. Polity Press, 2000.

2. Mannheim, Karl. The Problem of Generations. Essays on the Sociology of Knowledge, 1952.