من اكتشف الضغط الدموي؟
يعد الضغط الدموي أحد العوامل الحيوية التي تقيس صحة القلب والأوعية الدموية، ويمثل مقياسًا بالغ الأهمية في الطب الحديث. لكن اكتشافه لم يكن نتيجة لمجهود فردي واحد، بل كان ثمرة تراكم طويل من الدراسات والاكتشافات التي مرَّت بمراحل عدة. إن تاريخ اكتشاف الضغط الدموي لا يمكن عزله عن تطور علم الطب والفهم البشري للكثير من الظواهر الطبيعية المعقدة.
البداية الأولى لفهم الدورة الدموية
إنَّ فهم كيفية تأثير القلب على تدفق الدم كان مفتاحًا لفهم الضغط الدموي. قبل اكتشاف الضغط الدموي، كان يُعتقد أن الدم يتدفق في الأوعية بطريقة شبيهة بما نراه في الأنهار، دون معرفة التفاصيل الدقيقة حول ضغطه وتغيراته.
في القرن السابع عشر، كان الباحثون الأوائل يركزون على دراسة الدورة الدموية التي اكتشفها الطبيب الإنجليزي وليام هارفي في عام 1628. فقد أظهر هارفي من خلال تجاربه أن الدم يتدفق في مسار مغلق داخل الجسم، يبدأ من القلب عبر الشرايين ثم يعود إلى القلب عبر الأوردة. كانت تلك بداية الفهم العلمي لكيفية توزيع الدم في الجسم، ولكن لم يكن هناك معرفة مباشرة بالضغط الذي يحمله الدم وهو يمر عبر الأوعية الدموية.
تطور مفهوم الضغط الدموي
كان ضغط الدم أولاً يكتشف ويُدرس بشكل غير مباشر في سياق تجارب على الحيوانات. خلال القرن السابع عشر، بدأت بعض التجارب تظهر تأثيرات مختلفة على الأوعية الدموية، لكن لم تكن هناك وسائل دقيقة لقياس الضغط الدموي.
لكن، في عام 1733، جاء الطبيب الإيطالي أنجلوما سيني (Angelo Maestri) ليُجري أولى تجاربه في قياس ضغط الدم. كان يُقدّر الضغط بناءً على تأثير ضغط الشرايين في جسم الحيوانات، إلا أن التجربة لم تكن دقيقة بما يكفي للقياس الفعلي.
اختراع جهاز قياس الضغط الدموي
الحظة الفارقة في اكتشاف الضغط الدموي كانت في القرن التاسع عشر عندما ابتكر الطبيب الإيطالي سانتو تورنيو أول جهاز لقياس الضغط الدموي. في عام 1854، قام تورنيو بتطوير جهاز استخدمه لقياس ضغط الدم في الأوعية الدموية باستخدام مفهوم الضغط في الشرايين. إلا أن هذه الطريقة كانت بعيدة عن الدقة ولا تعطي الأرقام التي تحتاجها الدراسات الطبية المتقدمة.
في 1905، أتى العالم الروسي نيكولاي كوروتكوف (Nikolai Korotkoff) ليحدث تحولًا كبيرًا في فهم الضغط الدموي. فقد اخترع طريقة جديدة لقياس ضغط الدم، وهي التقنية التي لا تزال تُستخدم حتى اليوم. من خلال الاستماع إلى الأصوات التي يحدثها الدم أثناء مروره في الشرايين عند الضغط على شريان، تمكَّن كوروتكوف من تحديد القياسات الدقيقة للضغط الدموي.
قياسات الضغط الدموي الحديثة
تستخدم التقنية الحديثة في قياس الضغط الدموي جهاز “الجهاز الزئبقي” (Mercury sphygmomanometer) الذي يعتمد على مبدأ قياس مقاومة الشرايين لتدفق الدم، عبر قياس السعة التي يحتاجها الدم للتدفق في الشرايين عند تعرضها لضغط معين.
المقاييس المستخدمة في قياس الضغط الدموي تتكون من نوعين رئيسيين هما:
-
الضغط الانقباضي: هو الضغط الذي يحدث عندما ينقبض القلب ويضخ الدم عبر الشرايين. يُقاس بوحدات المليمتر من الزئبق (mmHg).
-
الضغط الانبساطي: هو الضغط الذي يحدث عندما يسترخي القلب بين ضربات القلب. أيضًا يُقاس بوحدات المليمتر من الزئبق.
منذ بداية القرن العشرين، بدأ الأطباء في استخدام هذه الأجهزة بشكل روتيني في الممارسات السريرية. أصبح قياس الضغط الدموي ركيزة أساسية في الكشف المبكر عن الأمراض المرتبطة بالقلب والأوعية الدموية مثل ارتفاع ضغط الدم (Hypertension) الذي يعد عامل خطر رئيسي لأمراض القلب والسكتات الدماغية.
تطورات تكنولوجيا قياس الضغط الدموي
منذ اكتشاف كوروتكوف لطريقة قياس الضغط الدموي، استمر تطور أدوات قياس الضغط لتصبح أكثر دقة وأسهل استخدامًا. في العقود الأخيرة، ظهرت أجهزة قياس الضغط الدموي الرقمية التي تعتمد على تقنيات إلكترونية لقياس الضغط دون الحاجة للاعتماد على الزئبق. هذه الأجهزة أصبحت شائعة في المنازل والمستشفيات.
تمثل الأجهزة الحديثة في قياس الضغط الدموي طفرة حقيقية في طرق مراقبة صحة القلب والأوعية الدموية. إن الدقة العالية للأجهزة الرقمية تسهم في رصد ارتفاع أو انخفاض ضغط الدم بشكل فوري، مما يعزز القدرة على التشخيص المبكر والوقاية من الأمراض المزمنة.
أهمية قياس الضغط الدموي في الطب الحديث
يُعد قياس الضغط الدموي أحد أهم الأدوات التي يعتمد عليها الأطباء لتشخيص العديد من الأمراض، مثل ارتفاع ضغط الدم، الذي يعتبر من الأسباب الرئيسية لأمراض القلب والسكتات الدماغية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الضغط الدموي يمكن أن يكون مؤشرًا على المشاكل الصحية الأخرى مثل خلل في عمل الكلى أو اضطرابات هرمونية.
التحديات في اكتشاف الضغط الدموي
على الرغم من التقدم الكبير في فهم الضغط الدموي واكتشافه، إلا أن العديد من التحديات لا تزال قائمة في تفسير تأثير الضغط على صحة الإنسان. واحدة من هذه التحديات هي أن الأشخاص الذين يعانون من ارتفاع ضغط الدم قد لا يشعرون بأي أعراض في مراحل المرض الأولى، مما يجعل تشخيص هذه الحالة أمرًا بالغ الأهمية. وهذا يعكس أهمية أدوات قياس الضغط في الرعاية الصحية اليومية.
الخاتمة
إن اكتشاف الضغط الدموي وقياسه مرَّ بتطورات كبيرة خلال عدة قرون، وكان كل اكتشاف جزءًا من الفهم الأكبر لكيفية عمل الجهاز الدوري في الجسم البشري. ما بدأ كأبحاث غير دقيقة حول الدورة الدموية تحوَّل إلى أساليب دقيقة لقياس الضغط الدموي، وقد أسهمت هذه الاكتشافات في إنقاذ حياة الملايين من البشر من الأمراض المرتبطة بالقلب والأوعية الدموية. اليوم، يُعد قياس الضغط الدموي ركيزة أساسية في التشخيص والعلاج الوقائي لمجموعة واسعة من الأمراض، مما يجعل فهم تاريخه واكتشافه أمرًا بالغ الأهمية في تقدم الطب الحديث.
