اكتشاف غايتك في الحياة

كيف تعثر على غايتك في الحياة؟

إن العثور على غاية الإنسان في الحياة ليس مجرد لحظة إلهام عابرة أو فكرة تستقر فجأة في الذهن، بل هو مسار طويل من البحث الداخلي، التفاعل مع التجارب، والتأمل العميق في الذات والعالم. إن الإنسان بطبيعته كائن يسعى للمعنى، وما أن تُفقد هذه الغاية أو تظل غامضة، حتى يشعر المرء بفراغ داخلي لا يملؤه المال ولا الشهرة ولا النجاح المهني وحده. في هذا المقال، سنقوم باستكشاف هذا الموضوع من أبعاده الفلسفية والنفسية والاجتماعية، وسنسلط الضوء على العوامل التي تساعد الإنسان على اكتشاف غايته، مع أمثلة عملية ونظريات علمية ودراسات حديثة تدعم الطرح.

المعنى الفلسفي للغاية في الحياة

عبر العصور، تساءل الفلاسفة عن الغاية من الوجود الإنساني. في الفلسفة اليونانية، ركّز أرسطو على مفهوم “السعادة” أو Eudaimonia كغاية عليا للإنسان، لكنه لم يكن يقصد بالسعادة المتعة العابرة، بل الحياة التي تحقق الفضيلة والكمال الإنساني. أما الرواقيون، فاعتبروا الغاية تكمن في العيش وفقًا للطبيعة والعقل، والاتساق مع القوانين الكونية.

في العصر الحديث، ناقش الوجوديون مثل جان بول سارتر وألبير كامو فكرة أن الحياة لا تمتلك غاية محددة مسبقًا، بل أن الإنسان هو من يصنع غايته بنفسه من خلال أفعاله واختياراته. وقد فتح هذا التصور المجال لفهم الغاية كعملية ديناميكية، تنمو وتتغير بحسب وعي الإنسان ونضجه وتجاربه.

الغاية في علم النفس الإنساني

في القرن العشرين، بدأت المدرسة الإنسانية في علم النفس، بقيادة كارل روجرز وأبراهام ماسلو، في تسليط الضوء على الغاية كجزء من تحقيق الذات. حسب تسلسل ماسلو الهرمي للاحتياجات، تأتي الحاجة إلى تحقيق الذات على رأس الهرم، وتمثل رغبة الفرد في الوصول إلى أقصى إمكاناته، وهي ما يُمكن تسميته بالغاية الحقيقية.

فرانكل، الطبيب النفسي النمساوي ومؤسس العلاج بالمعنى (Logotherapy)، قدّم رؤية مغايرة وقوية، حيث رأى أن الغاية لا تأتي بالضرورة من السعادة، بل من المعاناة التي يُعاد تأطيرها في سياق المعنى. ووفقًا لفرانكل، فإن الإنسان يمكن أن ينجو من أقسى الظروف، إن هو وجد معنًى لتلك المعاناة.

كيف تنشأ الغاية؟: التكوين النفسي والاجتماعي

الغاية لا تُعطى للفرد، بل تتشكل عبر التفاعل بين العوامل النفسية، الاجتماعية، والثقافية. فالطفل الذي ينشأ في بيئة تُقدّر الفن، قد يرى في الإبداع غايته، بينما الطفل الذي نشأ في بيئة تُمجّد العمل الخيري، قد يرى في خدمة الآخرين هدفًا ساميًا.

العوامل المؤثرة في تكوين الغاية:

العلاقة بين الغاية والهوية

من المهم التفريق بين الهوية والغاية، رغم ترابطهما الوثيق. الهوية تُجيب على سؤال: “من أنا؟”، بينما الغاية تُجيب على سؤال: “لماذا أنا هنا؟”. في بعض الأحيان، تتداخل الإجابتان، فالفنان قد يرى أن هويته كفنان هي أيضًا غايته في الحياة، لكن في حالات أخرى، قد يعيش الإنسان هوية مفروضة عليه، ويشعر بالاغتراب الداخلي، لأن تلك الهوية لا تنبع من غايته الحقيقية.

فهم الغاية يُساعد في إعادة صياغة الهوية بشكل أكثر صدقًا واتساقًا. فالشخص الذي يكتشف أن غايته هي التعليم، قد يعيد تقييم كل أدواره في الحياة ليخدم هذه الغاية، حتى إن لم يكن يعمل في المجال التربوي رسميًا.

المؤشرات التي تدل على أنك قريب من غايتك

توجد إشارات نفسية وسلوكية تُعد علامات على أنك تقترب من غايتك أو أنك وجدتها بالفعل، منها:

• الشعور بالانغماس (Flow): أن تنغمس في نشاط ما وتنسى الوقت هو مؤشر قوي على التوافق بين الغاية والعمل.

• الاستدامة العاطفية: حين تشعر بالرضا العميق، حتى وسط التعب، عند قيامك بأمرٍ معين.

• العزم والاستمرارية: عندما تواجه العقبات دون أن تفقد الحافز.

• التماسك الداخلي: الشعور بالاتساق بين أفكارك، مشاعرك، وسلوكك.

• التفاعل الإيجابي مع العالم: عندما تُشعّ غايتك في تحسين حياة الآخرين أو البيئة.

استراتيجيات عملية لاكتشاف الغاية

1. التأمل الذاتي والكتابة اليومية

من أقوى الأدوات لاكتشاف الغاية هو تدوين الأفكار، المشاعر، والتجارب. فالكتابة اليومية تُظهر أنماطًا في الاهتمامات والانفعالات يمكن أن تضيء الطريق نحو الغاية.

2. مراجعة لحظات الذروة

العودة إلى لحظات الفخر، النجاح، أو الألم الشديد، ومحاولة فهم ما الذي جعل هذه اللحظات ذات مغزى، يساعد في تحديد القيم والغايات الكامنة خلفها.

3. تطبيق تقنية الإطار الزمني العكسي

تخيل نفسك في سن الثمانين، واسأل: “ما الذي أود أن يُقال عن حياتي؟”، هذا التمرين يُساعد على بلورة الغاية من منظور شمولي.

4. إجراء مقابلة مع الذات

يمكن تقسيم الأسئلة الموجهة للذات إلى ثلاث محاور:

• ما الذي أستمتع به؟

• ما الذي أجيده؟

• ما الذي يحتاجه العالم؟
  
  الجواب المشترك بين هذه المحاور يُشكل ما يُعرف في الثقافة اليابانية بمفهوم “الإيكيغاي” (Ikigai)، وهو تقاطع بين الشغف، الرسالة، المهنة، والمهمة.

5. الاختبار عبر الفعل

الغاية لا تُكتشف نظريًا فقط، بل عبر التجربة. على الإنسان أن يجرّب، يتفاعل، يفشل، ويُعيد المحاولة، ليعرف أي طريق يناسبه أكثر.

دور الغاية في تعزيز الصحة النفسية

تربط العديد من الدراسات العلمية بين وجود غاية واضحة في الحياة وتحسن في مؤشرات الصحة النفسية والبدنية. في دراسة أجراها باحثون في جامعة ميشيغان، تبيّن أن الأشخاص الذين يشعرون بأن لديهم غاية في الحياة يقل لديهم خطر الإصابة بالأمراض المزمنة مثل السكري وارتفاع ضغط الدم.

كما أظهرت دراسة نُشرت في مجلة JAMA Psychiatry أن الأشخاص الذين لديهم غاية واضحة أقل عرضة للإصابة بالاكتئاب والقلق، ويتمتعون بدرجة أعلى من المرونة النفسية والتكيف مع الضغوط.

الغاية كمسار وليس محطة

من الخطأ تصور الغاية كهدف نهائي ثابت، بل هي مسار يتطور مع تطور الإنسان نفسه. قد تبدأ الغاية كاهتمام بسيط، ثم تتحول إلى مهنة أو مشروع حياتي، أو تأخذ شكلاً جديدًا بعد تغير جذري في حياة الفرد.

إن قابلية الغاية للتطور لا تعني أن الإنسان يعيش بلا بوصلة، بل أن البوصلة نفسها تصبح أكثر دقة مع كل خطوة، لأن الإنسان يتغير، والعالم من حوله يتغير، وبالتالي فإن التفاعل المستمر بين الذات والواقع يولد تجديدًا مستمرًا للغايات والمعاني.

عوائق تحول دون اكتشاف الغاية

توجد تحديات عديدة يمكن أن تعرقل الإنسان عن الوصول إلى غايته، ومن أبرزها:

• الخوف من الفشل: كثيرون لا يجرؤون على السعي وراء غاياتهم خشية السقوط أو الإحباط.

• الضغط الاجتماعي: القيود المجتمعية قد تفرض على الإنسان غايات ليست نابعة من ذاته.

• الانشغال الزائد: غياب الوقت للتأمل والتفكر يجعل الغاية ضائعة وسط ضجيج الحياة اليومية.

• المقارنات المستمرة: النظر إلى غايات الآخرين وتقييم الذات بناءً على معايير خارجية يؤدي إلى التيه.

التغلب على هذه العوائق يتطلب وعيًا ذاتيًا، ودعمًا نفسيًا واجتماعيًا، وأحيانًا شجاعة كبيرة للانفصال عن المسارات المرسومة مسبقًا.

الغاية ومفهوم الخدمة

في كثير من الحالات، ترتبط الغاية بخدمة الآخرين. هذا لا يعني أن الغاية يجب أن تكون تضحية مستمرة، بل أن المشاركة في شيء أكبر من الذات تمنح الإنسان شعورًا عميقًا بالمعنى والانتماء. سواءً كان ذلك عبر التعليم، الفن، الطب، العمل المجتمعي أو حماية البيئة، فإن الغاية ترتبط غالبًا بتقديم قيمة للآخرين.

خاتمة

العثور على غايتك في الحياة هو عملية وجودية معقدة ومليئة بالتحولات، لكنها ضرورية لتحقيق الذات والعيش بحيوية ومعنى. هذه الغاية لا تُستورد من الخارج ولا تُلقَّن، بل تُكتشف وتُبنى، عبر رحلة عميقة من التأمل، التجربة، والصدق مع الذات. إنها ليست وصفة جاهزة، بل مسار يتطلب الصبر، الانفتاح، والمرونة. في نهاية المطاف، الغاية ليست فقط ما نفعله، بل هي كيف نعيش، ولماذا نختار أن نستمر في المضي قدمًا رغم كل شيء.

المراجع:

1. Frankl, Viktor E. Man’s Search for Meaning. Beacon Press, 2006.

2. Hill, Patrick L., and Nicholas A. Turiano. “Purpose in Life as a Predictor of Mortality across Adulthood.” Psychological Science, vol. 25, no. 7, 2014, pp. 1482–1486.