اكتشاف الراديوم: رحلة اكتشاف عنصر غير مرئي غير مجرى تاريخ العلوم والطب
في نهاية القرن التاسع عشر، كان العالم العلمي مشغولًا بمفاجآت جديدة وعجائب غير متوقعة. واحدة من تلك الاكتشافات التي أحدثت انقلابًا في مجال الفيزياء والطب كانت اكتشاف الراديوم. يُعتبر الراديوم عنصرًا نادرًا ومشعًا يمتلك خصائص غير مألوفة جعلته محط اهتمام علماء فيزياء وفسيولوجيا في وقت كانت فيه الحروب العلمية على أشدها. كانت أولى خطوات هذا الاكتشاف نتيجة لعقلية منفتحة وصبر استثنائي، نجحت في تقديم سلاح جديد لعلوم الطب والعلاج، كما أعطت دفعة جديدة للأبحاث في مجال النشاط الإشعاعي.
الراديوم واكتشافاته الأولية
بدأت القصة في عام 1898، حينما كان العالم الفرنسي هنري بيكيريل، المتخصص في دراسة النشاط الإشعاعي، يعمل على بحثه في ظاهرة الفوسفور. كانت هذه الظاهرة تتمثل في قدرة بعض المواد على إصدار إشعاع بعد تعرضها للضوء. خلال تجربته، اكتشف بيكيريل أن أملاح اليورانيوم، عند تعرضها للهواء، تنبعث منها إشعاعات غير مرئية لم تكن قد عُرفت بعد. كان هذا الاكتشاف الأول لظاهرة الإشعاع الطبيعي.
ولكن الاكتشاف الأكثر شهرة ارتبط باسم ماري كوري وزوجها بيير كوري. كان هذا الزوجان يعكفان على دراسة خصائص المواد المشعة، وبالخصوص اليورانيوم، عندما قررا البحث عن عنصر جديد قد يكون مصدرًا قويًا للنشاط الإشعاعي. في عام 1898، بدأ ماري كوري وزوجها في دراسة معدن بيشوفايت، الذي كان يحتوي على نسبة مرتفعة من اليورانيوم. وعندما أضافا له عملية التحليل، اكتشفا أنه يحتوي على عنصر غير معروف حتى تلك اللحظة: الراديوم.
الراديوم، كما اكتشفته ماري كوري، هو عنصر مشع ذا نشاط إشعاعي أعلى من اليورانيوم. واكتشفا أنه يمكن فصل هذا العنصر عن المعادن الأخرى بواسطة التحليل الكيميائي، ليتمكنوا من الحصول على المادة النقية من الراديوم.
كيف تم اكتشاف الراديوم؟
كان اكتشاف الراديوم خطوة هائلة في مجال العلوم الفيزيائية. بدأت ماري كوري وزوجها بيير في فصل المادة الجديدة بواسطة التحليل الكيمياوي، وهي عملية معقدة للغاية في ذلك الوقت نظرًا لظروف العمل البسيطة مقارنة بما هو متاح اليوم. استخدموا الأحماض ومواد كيميائية أخرى لفصل المركبات المعدنيّة، كما اعتمدوا على جهاز قياس النشاط الإشعاعي (الجهاز الذي طوره بيكيريل سابقًا) للكشف عن العناصر المشعة. بعد أشهر من العمل الشاق، تمكن الزوجان من استخراج كمية صغيرة للغاية من الراديوم النقي، وكان هو العنصر الذي أدهش العالم لما له من خصائص فريدة.
كان الراديوم في تلك الفترة مادة شديدة النشاط، ويمتلك إشعاعًا قويًا جدًا. وقد أظهرت الدراسات لاحقًا أنه يمكن أن ينبعث منه إشعاع بمستويات غير مرئية للعين المجردة، لكنه قادر على إحداث تغييرات بيولوجية كبيرة. وهذا ما جعل الراديوم يشكل بدايةً جديدة في مجال الطب والعلاج بالإشعاع، بعد أن تم اكتشافه بشكل كبير في أوائل القرن العشرين.
التأثيرات الطبية للراديوم
لم يكن اكتشاف الراديوم مجرد حدث علمي بحت، بل أحدث تحوّلًا كبيرًا في مجالات الطب والفيزياء التطبيقية. بعد أن تم عزل الراديوم، اكتشف الأطباء سرعانًا قدرته الفائقة على التأثير في الأنسجة البشرية، مما جعل منه علاجًا واعدًا للعديد من الأمراض، خاصة السرطان. في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين، بدأ الأطباء في استخدام الراديوم لعلاج الأورام السرطانية. تم تطبيقه بواسطة حقن المرضى بمادة تحتوي على الراديوم أو من خلال أشعة الراديوم المباشرة على الأماكن المصابة في الجسم.
ولكن، في السنوات اللاحقة، اكتشف العلماء أن التعرض المطوّل للراديوم يمكن أن يكون له آثار سلبية على صحة الإنسان. كان الراديوم مادة مشعة، وكان التعرض له يسبب تسممًا إشعاعيًّا، مما قد يؤدي إلى تدهور شديد في صحة الأفراد الذين يعملون به بشكل مستمر، مثلما حدث مع العديد من علماء الفيزياء والطب الذين تعرضوا له بشكل مباشر أثناء دراستهم.
إحدى أبرز حالات التسمم بالراديوم كانت مع العاملات في صناعة الساعات المضيئة التي استخدم فيها الراديوم للإشارة إلى الوقت في الظلام. كانت النساء العاملات في هذه المصانع يلعقن الفرشاة المغموسة بالراديوم للحصول على أطراف دقيقة للفرشاة. هذا التعرض المستمر للمادة المشعة تسبب في تعرضهن لمشاكل صحية حادة، مثل فقر الدم، السرطان، وأمراض العظام.
ماري كوري: الرائدة في اكتشاف الراديوم
تعتبر ماري كوري واحدة من الشخصيات الأبرز في مجال الفيزياء والكيمياء، وقد شكلت مساهماتها في اكتشاف الراديوم نقطة تحول في حياة العلماء والباحثين في كافة أنحاء العالم. وُلدت ماري سكوودوفسكا كوري في وارسو عام 1867، وهاجرت إلى باريس عام 1891 لمتابعة دراستها في جامعة السوربون. كانت هي المرأة الأولى التي تحرز جائزة نوبل في الفيزياء عام 1903، ثم نالت جائزة نوبل ثانية في الكيمياء عام 1911، لتصبح أول شخص في العالم يحصل على جائزتي نوبل في تخصصين مختلفين.
تجلّت إنجازات ماري كوري ليس فقط في اكتشاف الراديوم، ولكن أيضًا في تطوير أبحاث النشاط الإشعاعي، وفي فتح الطريق للأبحاث الطبية المتعلقة بالعلاج بالإشعاع. على الرغم من الصعوبات التي واجهتها كعالمه في مجتمع يهيمن عليه الرجال، واصل عملها المخلص والتزامها الذي لم يثنيها عن متابعة دراستها وأبحاثها حتى بعد وفاة زوجها بيير كوري في حادث عام 1906.
تدهور الصحة بسبب الراديوم
على الرغم من النجاح الباهر الذي حققته ماري كوري وزوجها، إلا أن استخدام الراديوم كان مصحوبًا بالكثير من المخاطر. حيث أثبتت الدراسات اللاحقة أن التعرض المستمر للراديوم يمكن أن يسبب آثارًا ضارة على الجسم البشري. فقد كانت المادة المشعة تؤدي إلى تراكم المواد المشعة في العظام والأعضاء الداخلية، مما يسبب تدهورًا سريعًا في الأنسجة والأعضاء.
وتوفيت ماري كوري في عام 1934 بسبب مرض الدم (فقر الدم اللاتنسجي)، الذي يُعتقد أنه ناتج عن تعرضها المستمر للإشعاع أثناء أبحاثها. يُعتبر موت ماري كوري رمزًا للتضحية في سبيل العلم، حيث لم يكن العلماء في تلك الفترة على دراية كاملة بمخاطر المواد المشعة.
تطور استخدام الراديوم بعد اكتشافه
عقب اكتشاف الراديوم، توسع استخدامه في العديد من المجالات. في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بدأ العلماء في البحث عن استخدامات متعددة لهذا العنصر في مجالات الطب والصناعة، بما في ذلك:
-
العلاج بالإشعاع: بدأ الراديوم يستخدم في العلاج الإشعاعي لعلاج الأورام السرطانية، وسرعان ما أصبح جزءًا من العلاج التقليدي.
-
المؤشرات الضوئية: استخدم الراديوم في إنتاج إضاءة مضيئة في الساعات والموازين وأدوات القياس.
-
البحث العلمي: أصبح الراديوم عنصراً رئيسياً في البحوث المتعلقة بالإشعاع النووي.
ومع تقدم التكنولوجيا واكتشاف تقنيات جديدة في العلاج، بدأ استخدام الراديوم يقل في المجال الطبي لصالح العناصر المشعة الأخرى التي كانت أقل سمية وأكثر أمانًا.
الخاتمة
إلى اليوم، يظل الراديوم عنصرًا ذا تاريخ طويل ومعقد في مجال العلوم والطب. إن اكتشافه كان بداية لفهم أعمق عن النشاط الإشعاعي وفتح أبوابًا جديدة في علاج السرطان، كما كشف عن مخاطر المواد المشعة وأدى إلى تطوير أبحاث السلامة النووية. ورغم المخاطر التي رافقت استخدامه، يبقى اكتشاف الراديوم أحد أعظم الإنجازات العلمية في التاريخ، وهو شهادة على تفاني العلماء في سعيهم لفهم العالم من حولهم، على الرغم من المخاطر التي قد يواجهونها في سبيل الوصول إلى المعرفة.
