روتين الـ 15 دقيقة: استراتيجية أنتوني ترولوب في التأليف
يُعتبر الروائي البريطاني أنتوني ترولوب أحد الأسماء البارزة في الأدب الإنجليزي، ويمثل نموذجًا مثاليًا للإنتاج الأدبي الذي يجمع بين الإبداع والانضباط في آنٍ واحد. لا يُعرف عن ترولوب فقط سعة معرفته وعمق شخصياته وحبكاته الأدبية، بل أيضًا عن طريقة عمله المنهجية التي أتاحت له إتمام العديد من الروايات في وقت قصير نسبيًا. من بين هذه الطرق، هناك روتينٌ غريبٌ ولكنه فعال، وهو “روتين الـ 15 دقيقة”، الذي يُعتبر أحد أسرار نجاحه في إنتاج أعمال أدبية مميزة. في هذا المقال، سوف نتناول هذا الروتين باستفاضة ونتعرف على كيفية تطبيقه، وأثره في مسيرته الأدبية.
البداية مع روتين الـ 15 دقيقة
روتين الـ 15 دقيقة هو ببساطة ممارسة تمكّن الكاتب من تخصيص فترات زمنية قصيرة ولكن منتظمة للكتابة. هذه الفترات الزمنية القصيرة، التي تقدر بخمسة عشر دقيقة فقط، تُشجع الكاتب على البدء في الكتابة دون التشتت أو الشعور بالضغط الناتج عن الحاجة إلى تخصيص وقت طويل لمهمة الكتابة.
وفقًا لترولوب، كان هذا الروتين أحد أسرار إنتاجه الغزير. فقد استطاع من خلال تخصيص وقت قصير يوميًا للكتابة أن يُنتج أعمالًا أدبية كثيرة، مما جعله أحد أكثر الكتاب الإنجليز إنتاجًا في القرن التاسع عشر.
فائدة الروتين القصير
قد يظن البعض أن تخصيص خمسة عشر دقيقة فقط للكتابة لن يكون له أثر كبير على تطور العمل الأدبي، لكن الواقع يثبت العكس. الروتين القصير له عدة فوائد حيوية تساهم في تعزيز الإنتاجية الإبداعية على المدى الطويل. من أهم هذه الفوائد:
-
التحفيز على الالتزام اليومي: من خلال تحديد وقت محدد لا يتجاوز 15 دقيقة، يجد الكاتب نفسه قادرًا على الالتزام بممارسة الكتابة يوميًا دون أن يشعر بالضغط الناتج عن ضرورة تخصيص ساعات طويلة لهذه المهمة. هذا التكرار اليومي يساهم في تحفيز العقل على التفاعل الإبداعي.
-
زيادة التركيز: أثناء هذه الفترة القصيرة، يضطر الكاتب إلى تركيز كل انتباهه في الكتابة فقط. فلا مجال هنا للانشغال بمشتتات مثل الهاتف أو البريد الإلكتروني، مما يؤدي إلى زيادة جودة الكتابة وفعاليتها.
-
القضاء على القلق والإجهاد: الكتابة لأوقات طويلة قد تكون مرهقة للغاية وتُسبب القلق، خاصة عندما لا تكون الأفكار قد تبلورت بشكل جيد بعد. في المقابل، روتين الـ 15 دقيقة يخفف من هذا القلق، إذ يسمح للكاتب بالتقدم خطوة بخطوة نحو هدفه دون الشعور بالإرهاق.
-
تعزيز التدفق الإبداعي: عندما يصبح الكاتب معتادًا على كتابة خمس عشرة دقيقة يوميًا، يبدأ تدريجيًا في دمج الكتابة ضمن روتينه اليومي بشكل طبيعي. وقد تترجم هذه الممارسة إلى تدفق إبداعي مستمر، حيث تبدأ الأفكار في الظهور بشكل أكثر سلاسة مع مرور الوقت.
تطبيقات روتين الـ 15 دقيقة في الحياة العملية
يمكن للعديد من الكتاب والفنانين والمبدعين تطبيق هذا الروتين بشكل مماثل للاستفادة من فوائده. روتين الـ 15 دقيقة ليس مقتصرًا فقط على الكتابة الأدبية، بل يمكن تطبيقه على مجموعة متنوعة من الأنشطة الإبداعية. في حال كان الهدف هو الكتابة، يكون الكاتب قادرًا على:
-
كتابة فصول جديدة أو تطوير أفكار لمشروعاته الأدبية.
-
مراجعة النصوص القديمة أو تحريرها بطريقة أكثر دقة.
-
تدوين الملاحظات أو الأفكار التي يمكن أن تساهم في إثراء العمل الأدبي.
بالنسبة لمن يعمل في مجالات أخرى، مثل الفنون التشكيلية أو الموسيقى أو التصميم، يمكن لهذا الروتين أن يكون له نفس التأثير التحفيزي. فالمبدعون في هذه المجالات يمكنهم تخصيص 15 دقيقة للعمل على مهام صغيرة ومحددة، مما يسمح لهم بالتقدم تدريجيًا نحو تحقيق أهداف أكبر.
تجربة أنتوني ترولوب مع هذا الروتين
ترولوب، الذي كان يتمتع بسمعة كبيرة في مجال الرواية الاجتماعية والسياسية، كان يؤمن بأن الكتابة تحتاج إلى تنظيم وانضباط أكثر من كونها مسألة إلهام فني فقط. كان يخصص وقتًا ثابتًا كل يوم لكتابة رواياته، وتحديدًا في الصباح الباكر قبل أن يبدأ في مسؤولياته اليومية الأخرى.
كانت هذه الاستراتيجية حلاً عمليًا له في ظل جدول أعماله المزدحم. فهو كان يشغل عدة مناصب سياسية وكتابية، وكان له التزامه الخاص في المجتمع. لكن، مع التزامه بروتين الكتابة اليومي، استطاع أن يوازن بين هذه الأنشطة المختلفة وبين مواصلة الكتابة.
ترولوب كان يكتب ما بين 1000 إلى 2000 كلمة يوميًا خلال فترات الكتابة القصيرة التي كان يخصصها. هذه الكمية الكبيرة من الكلمات، رغم أنها قد تبدو قليلة في البداية، كانت تتراكم بشكل سريع وتساعده في إنجاز روايات ضخمة.
التأثير طويل المدى للروتين
إن تبني روتين الـ 15 دقيقة له آثار بعيدة المدى على القدرة الإبداعية للكاتب. بدلاً من انتظار الإلهام للظهور، يجد الكاتب نفسه يواصل الكتابة بشكل مستمر ويوم بعد يوم، مما يسهم في تحسين مهاراته الكتابية بمرور الوقت. لم يكن ترولوب وحده من استفاد من هذا الروتين، بل تبناه العديد من الكتاب الآخرين بعده، سواء في الأدب أو في المجالات الإبداعية الأخرى.
كيفية تبني روتين الـ 15 دقيقة في الحياة اليومية
إذا كان الكاتب أو المبدع يرغب في تطبيق هذا الروتين في حياته اليومية، يمكنه اتباع بعض الخطوات البسيطة لتسهيل العملية. الخطوة الأولى تكمن في تحديد الوقت الذي سيكون مناسبًا للكتابة دون تشتيت. يُفضل أن يكون هذا الوقت في ساعات الصباح الباكر أو في المساء عندما يكون الشخص في ذروة تركيزه.
الخطوة الثانية هي تحديد هدف الكتابة لهذا الوقت المحدد. سواء كان هذا الهدف هو إتمام جزء من رواية أو تطوير فكرة جديدة، يجب أن يكون الهدف ملموسًا ومحددًا. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للكاتب تحديد موضوع معين أو فكرة صغيرة للعمل عليها خلال هذه الفترة القصيرة.
أخيرًا، من المهم أن يلتزم الكاتب بهذا الروتين يوميًا، حتى ولو شعرت الكتابة بأنها لا تسير في الاتجاه الصحيح. فالتقدم البطيء أفضل من التوقف التام. مع مرور الوقت، ستتراكم هذه الدقائق القصيرة لتصبح جزءًا أساسيًا من روتين الحياة اليومية، مما يسمح للكاتب بالوصول إلى مستوى إبداعي أعلى.
خلاصة
إن استراتيجية روتين الـ 15 دقيقة التي اتبعها أنتوني ترولوب لا تقتصر فقط على الكتابة الأدبية، بل يمكن أن تكون قاعدة ذهبية لأي مبدع يسعى إلى زيادة إنتاجه الإبداعي. بإعطاء نفسه مساحة صغيرة لكنه منتظمة للتأليف أو التفكير، يصبح الكاتب قادرًا على تحويل الكتابة إلى عادة ثابتة، ومن ثم الإنتاج الغزير والعمل المستمر. هذه الطريقة ليست مجرد طريقة لإتمام الأعمال الأدبية، بل هي فلسفة تدعم التركيز والانضباط، مما يتيح للكاتب أن يتغلب على المشتتات والضغوط اليومية.
