هل استجابة “الكر أو الفر” هي الاستجابة البشرية الوحيدة للضغوطات؟
إنَّ استجابة “الكر أو الفر” هي واحدة من أقدم وأبسط ردود الفعل التي طورها البشر للحفاظ على حياتهم في مواجهة المخاطر والتهديدات. ومع ذلك، قد يكون من المبالغة القول بأنها الاستجابة الوحيدة التي يتبعها الإنسان عند التعرض للضغوطات. في الواقع، هذه الاستجابة هي مجرد واحدة من مجموعة متنوعة من الأساليب التي يلجأ إليها البشر للتعامل مع المواقف العصيبة. لفهم ذلك بشكل أعمق، من الضروري أن نتعرف على “الكر أو الفر” بشكل تفصيلي، ونستعرض باقي الآليات النفسية والفسيولوجية التي يتم تفعيلها في مواجهة الضغوطات الحياتية.
تعريف استجابة “الكر أو الفر”
استجابة “الكر أو الفر” هي استجابة فسيولوجية تحدث عندما يواجه الفرد تهديدًا أو موقفًا يثير مشاعر الخوف أو القلق. نشأت هذه الاستجابة في القدم كآلية دفاعية للبقاء على قيد الحياة في مواجهة الحيوانات المفترسة أو المخاطر الطبيعية. حينما يواجه الشخص تهديدًا، يتم تحفيز الجهاز العصبي الودي لإفراز هرمونات مثل الأدرينالين والنورأدرينالين، مما يؤدي إلى زيادة في ضربات القلب، وتوسيع حدقة العين، وزيادة تدفق الدم إلى العضلات، مما يمكن الشخص من إما الهروب من الموقف (الفرار) أو مواجهته بشكل مباشر (الكر).
استجابة “الكر أو الفر” في العصر الحديث
بالرغم من أن المخاطر المادية التي كانت تهدد أسلافنا قد تضاءلت في عصرنا الحديث، فإن استجابة “الكر أو الفر” لا تزال نشطة في معظمنا عند مواجهة مواقف ضاغطة، مثل التحدث أمام جمهور، أو مواجهة مشكلات مالية، أو حتى في التفاعلات الاجتماعية مع الأشخاص الذين قد نشعر معهم بعدم الأمان. في هذه الحالات، قد يُشعر الفرد بالتهديد من خلال المواقف، مما يؤدي إلى ردود فعل مشابهة لتلك التي كان يشعر بها أجدادنا في مواجهة التهديدات الحقيقية.
لكن مع تطور المجتمعات البشرية وزيادة تعقيد الحياة الاجتماعية والاقتصادية، أصبحت الضغوطات التي يواجهها الفرد اليوم لا تقتصر على التهديدات الجسدية. فقد تزايدت الضغوطات النفسية والاجتماعية مثل التوقعات العالية في العمل، القلق بشأن المستقبل، الصراعات الشخصية، وغيرها من الأسباب التي قد تؤدي إلى استجابة مماثلة في العقل والجسد.
هل “الكر أو الفر” هي الاستجابة الوحيدة؟
على الرغم من أن استجابة “الكر أو الفر” تعتبر آلية دفاعية قوية ومباشرة، إلا أن هناك استجابات أخرى قد تكون أكثر تعقيدًا وأقل حدة. يعتقد العلماء أن البشر طوروا مجموعة متنوعة من الردود على الضغوطات تتراوح من الاستجابات الاجتماعية إلى التعاملات العاطفية، ولعل أبرز هذه الاستجابات هي:
1. الاستجابة “التجميد” (Freeze Response)
من المعروف أن البشر في بعض الأحيان لا يتخذون خيار الهروب أو المواجهة عندما يواجهون تهديدًا، بل قد يتجمدون في مكانهم. هذه الاستجابة تُعرف بـ”التجميد”، وهي شائعة في الحيوانات البرية، حيث قد تتوقف الحركة تمامًا عندما يشعر الكائن بالتهديد، إما للتمويه أو لتجنب جذب الانتباه. في البشر، قد تكون هذه الاستجابة نفسية، حيث يشعر الشخص بالعجز أو عدم القدرة على اتخاذ قرار. في هذه الحالة، ينشأ ما يُسمى “الشلل العقلي” أو “الجمود العاطفي”، حيث يتوقف الفرد عن اتخاذ أي خطوات عملية لمواجهة الموقف.
2. التفاعل الاجتماعي (Social Engagement Response)
من الاستجابات التي ربما تكون قد نشأت بسبب الارتباط الاجتماعي للبشر، هي الاستجابة عبر التعاون أو البحث عن الدعم الاجتماعي. بدلاً من الانسحاب أو الهجوم، قد يبحث الشخص عن الدعم العاطفي أو المساعدة من الآخرين. هذه الاستجابة تعد جزءًا من الفطرة الإنسانية، حيث يفضل العديد من الناس البقاء مع أفراد العائلة أو الأصدقاء في الأوقات الصعبة، ما يعزز شعورهم بالأمان والراحة.
3. الاستجابة “التأقلم” (Coping Responses)
التأقلم هو الاستجابة الأكثر شيوعًا التي يتبعها العديد من الأفراد عند التعامل مع الضغوطات طويلة الأمد. على عكس استجابة “الكر أو الفر”، التي تكون سريعة وحادة، فإن التأقلم هو عملية تكيف بطيئة تقوم على إيجاد حلول فعالة للمشاكل. يتضمن التأقلم مجموعة واسعة من الاستراتيجيات، مثل التفكير الإيجابي، ممارسة تقنيات الاسترخاء مثل التأمل واليوغا، أو تغيير البيئة المحيطة بالشخص لتقليل التوتر. يمكن أن يكون التأقلم عملية عقلية، عاطفية، أو سلوكية تعتمد على القدرة على تعديل التفكير والاعتقاد حول المواقف الصعبة.
4. الاستجابة العقلية المعقدة (Cognitive Appraisal)
عندما يواجه الفرد مواقف ضاغطة، غالبًا ما يقوم بتقييم الموقف بشكل عقلاني قبل اتخاذ القرار. هذه العملية تُعرف بـ”التقييم المعرفي” أو “التقدير المعرفي”، وتستند إلى القدرة على تقدير الموقف واتخاذ قرار بشأن كيفية التعامل معه. على سبيل المثال، قد يواجه الشخص ضغوطًا مالية، لكنه قد يقرر ببساطة تعديل ميزانيته أو البحث عن فرص جديدة بدلاً من اللجوء إلى “الكر أو الفر”.
تأثير استجابة “الكر أو الفر” على الصحة النفسية والجسدية
رغم أن استجابة “الكر أو الفر” هي آلية دفاعية طبيعية، إلا أن استمرار تفعيل هذه الاستجابة لفترات طويلة يمكن أن يكون له تأثيرات ضارة على الصحة. استجابة “الكر أو الفر” تتسبب في إفراز هرمونات مثل الأدرينالين والكورتيزول، وهو ما يساعد الجسم على التفاعل السريع مع التهديدات. ومع ذلك، إذا استمرت هذه الاستجابة لفترة طويلة، قد يؤدي ذلك إلى مشكلات صحية مثل ارتفاع ضغط الدم، اضطرابات النوم، والقلق المزمن.
في المقابل، الاستجابات الأكثر مرونة مثل التأقلم والتقييم المعرفي يمكن أن تكون أكثر فاعلية في التعامل مع الضغوطات الحياتية. من خلال تعلم كيفية استخدام هذه الاستراتيجيات بفعالية، يمكن للفرد تقليل الأثر السلبي للضغوط على صحته النفسية والجسدية.
الختام
بناءً على ما تقدم، يمكن القول إن استجابة “الكر أو الفر” ليست الاستجابة الوحيدة التي يمكن للبشر اتباعها عند التعرض للضغوطات. بالرغم من أن هذه الاستجابة تمثل رد فعل طبيعي وغريزي، إلا أن البشر يملكون أيضًا مجموعة من الاستجابات النفسية والفسيولوجية الأخرى التي يمكن أن تكون أكثر فعالية في إدارة الضغوطات بطرق مرنة ومستدامة. يتراوح التعامل مع الضغوطات بين الاستجابات العاطفية المعقدة، مثل التأقلم، إلى ردود فعل عقلية وتقييمات شخصية تساعد على إيجاد حلول للمشاكل بدلاً من الانفعال الغريزي.
