أقوال ابن الجوزي عن الصبر

أقوال ابن الجوزي عن الصبر

تُعد أقوال الإمام عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي من أبرز ما أُثر عن علماء الإسلام في ميادين الحكمة والموعظة، وهو من أعلام القرن السادس الهجري، اشتهر بعلمه الغزير وبلاغته الفذة، وله أثرٌ كبير في تقعيد منهج الوعظ الإسلامي بأسلوب يجمع بين العاطفة والعقل، وبين جمال الأسلوب ودقة المعنى. ومن بين الموضوعات التي تناولها بإسهاب وتميز هو موضوع “الصبر”، الذي شغل حيزًا واسعًا في كتبه وخطبه، حتى أصبح من أبرز من تحدث عنه بمنظور إيماني نفسي عميق.

الصبر في فكر ابن الجوزي لا يُفهم كتحمل سلبي للشدائد، بل هو مقام من مقامات السالكين، ومفتاح من مفاتيح النجاح في الدنيا والآخرة. ويرتبط الصبر عنده بإيمان العبد، وبقدرته على مقاومة الشهوات، وتحمل المكاره، وانتظار الفرج بثقة لا تتزعزع في حكمة الله وعدله.

الصبر بين النظر العقلي والتجربة الروحية عند ابن الجوزي

كان ابن الجوزي، بخبرته العميقة في النفس الإنسانية، يدرك أن الصبر ليس أمرًا فطريًا يولد مع الإنسان، بل هو مكتسبٌ يُنمّى بالتدريب والمجاهدة. يقول في كتابه “صيد الخاطر”:

“الصبر على الأقدار من أخلاق الكُمّل، فإن الجزع لا يُرجع فائتًا، بل يُضاعف المصيبة”.

في هذه العبارة يتجلى المعنى العميق للصبر، فهو خلق النضج والكمال، وهو طريق تقويم النفس لا ردّ القضاء، فمن عارض قدر الله هلك، ومن رضي وسلّم ارتقى.

ويرى أن من أركان الصبر أربعة: الصبر على الطاعة، الصبر عن المعصية، الصبر على الأقدار، والصبر على البلاء. فكل صورة من صور الحياة تتطلب صبرًا نوعيًا خاصًا. ويقول:

“اعلم أن الصبر عن الشهوات أشد من الصبر على المكاره، لأن المكروه يأتي دفعة، والشهوة تلازم العبد في كل حين”.

الصبر على الطاعة

يُبرز ابن الجوزي أهمية الصبر على أداء الطاعات رغم مشقة النفس عليها. فالعبادة ليست دائمًا محببة للنفس، بل كثيرًا ما تحتاج إلى مجاهدة. ويقول:

“رأيت النفس تميل إلى الكسل، فإذا ألزمتها القيام إلى الطاعة رضيت بعد ساعة”.

وهذا يُفهم أن النفس البشرية قابلة للانقياد، لكنها تتطلب قيادة واعية، وصبرًا في توجيهها إلى الطاعة. فليست العبرة بالميل الفوري، وإنما بالثبات والإلزام.

ويضيف في موضع آخر:

“من صبر على قيام الليل، رأى نورًا في وجهه لا تقدر عليه العيون، فالصبر باب الفتح”.

الصبر عن المعصية

عند ابن الجوزي، الصبر عن المعاصي يُعد من أعظم أنواع الجهاد النفسي. إذ المعصية، بخاصة تلك التي تتعلق بالشهوات، تكون مرغوبة للنفس، محببة لها، ولذلك مقاومتها تتطلب قوة إيمانية راسخة. يقول:

“الصبر عن الشهوة عند القدرة، دليل صحة العقل، وسلامة الدين”.

وهو بذلك يربط بين السيطرة على الشهوة وبين نضج الإنسان نفسيًا ودينيًا. ويرى أن مقاومة المعاصي ليست رفضًا للذات، بل حفاظ على جوهر الإنسان وكرامته.

ويؤكد في موضع آخر:

“كم من معصية أورثت ذلًا طويلاً، وكم من صبرٍ عن معصية أورث عزًا لا يزول”.

فهو يربط الصبر بالعاقبة، وهو منظور تربوي عميق، إذ يعلم الإنسان أن كل لحظة مقاومة تُبنى عليها حياة من الرفعة والكرامة.

الصبر على البلاء

من أبرز جوانب تناول ابن الجوزي للصبر، حديثه المؤثر عن الصبر على المصائب والابتلاءات. يقول:

“واعلم أن البلاء لا يدوم، ولكن ما يبقى هو الأجر، فاصبر، فإن العواقب للمتقين”.

ويُظهر في عبارته إيمانًا راسخًا بفناء البلاء، وثبات الأجر، ويدعو المرء لأن ينظر إلى ما بعد البلاء لا إلى وقعه.

ويُورد في موضع آخر:

“لو كان الجزع يرد قضاءً، لكان أولى الناس به الأنبياء، فكيف وقد أمروا بالصبر؟”.

وفي هذا تذكير بأن البلاء سنّة إلهية، وأن الصبر عليه ليس فقط فضيلة، بل هو اقتداء بالصفوة من خلق الله، وهم الأنبياء.

الجدول التالي يُظهر تصنيفًا موجزًا لأقوال ابن الجوزي بحسب نوع الصبر:

الصبر عند ابن الجوزي في ضوء القرآن والسنة

لم يكن حديث ابن الجوزي عن الصبر بمعزل عن النصوص الشرعية، بل كان نابعًا من فهم عميق لنصوص الكتاب والسنة. فقد تأمل الآيات التي تناولت الصبر بوصفه مقامًا رفيعًا، يقول تعالى:

“إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ” [الزمر:10].

ويعلق ابن الجوزي على هذه الآية قائلًا:

“الصبر باب من أبواب الكرم الإلهي، من دخله أُغدق عليه بالفضل بلا عدّ ولا حصر”.

أما في ضوء السنة النبوية، فيستشهد بحديث النبي ﷺ:

“ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر”.

ويرى ابن الجوزي أن الحديث يُعزز الفكرة القائلة بأن الصبر ليس فقط موقفًا نفسيًا، بل هبة ربانية تتنزل على من يسعى لها بصدق.

الصبر والنجاح في الدنيا

من الجوانب الفريدة في تناول ابن الجوزي للصبر أنه لا يربطه فقط بالثواب الأخروي، بل يؤكد أن الصبر هو مفتاح النجاح الدنيوي أيضًا، يقول:

“رأيت من صبر على فقره، فصار غنيًا، ومن صبر على جهله، فصار عالمًا، ومن صبر على ظلم الناس، فصار مهابًا بينهم”.

فالصبر في رؤيته هو استثمار طويل الأجل، يتطلب مجهودًا مستمرًا لكنه يُفضي إلى نتائج باهرة، سواء في العلم أو المال أو المكانة الاجتماعية.

الصبر وعلاقته بالأمل

يؤكد ابن الجوزي أن الصبر لا ينفصل عن الأمل، بل هما توأمان لا يُفترقان. فمن يصبر وهو يائس لا يصبر بحق، وإنما الممدوح من يصبر وقد علّق قلبه بفرج الله، يقول:

“الصبر الجميل ما لا شكوى فيه، وإنما يكون مع تعلق القلب بالفرج”.

وهذه النظرة تجعل الصبر قوة إيجابية لا سلبية، وتعيد إليه بعده الروحي العميق، وتجعل منه سلوكًا إيمانيًا متكاملًا.

أثر الصبر في تهذيب النفس

يولي ابن الجوزي أهمية كبيرة لأثر الصبر في بناء شخصية الإنسان، فهو يرى أن:

“ما صبرت نفس إلا تهذبت، وما تهذبت نفس إلا علت”.

فالصبر بوصفه حالة من التحكم في النزوات والردود النفسية، يؤدي إلى نقاء داخلي وسلام روحي، يُفضي إلى الرفعة الخلقية.

ويشير إلى أن الانفعالات النفسية غير المنضبطة لا تُنتج إلا الفوضى، أما النفس الصابرة فهي التي تمتلك قيادة عقلها وروحها، فتسلك الطريق المستقيم.

الصبر كفن أخلاقي

يتعامل ابن الجوزي مع الصبر ليس فقط كفضيلة، بل كفن من فنون الحياة الأخلاقية، يتطلب دقة وحنكة. ويقول:

“ليس الصبر أن تحبس الدمع، بل أن تُخفي الجزع”.

ويُفرق بذلك بين مظاهر الحزن والجزع الباطني، ويؤكد أن جوهر الصبر هو ما يحدث في القلب، لا ما تراه العيون، وهي رؤية دقيقة تدمج بين المظهر والجوهر، وتوجه الإنسان للصدق الداخلي.

خاتمة موضوعية

الصبر عند ابن الجوزي ليس موقفًا عابرًا، ولا خُلقًا عاديًا، بل هو مدرسة تربوية متكاملة، تهدف إلى بناء الإنسان على أساس من الإيمان، والحكمة، وضبط النفس، والرضا بالقضاء، ومجابهة الشهوات. ومن خلال أقواله العميقة والمتنوعة، نلمس حكمة رجل عايش تقلبات الحياة، وفهم حقيقة النفس الإنسانية، وربط كل ذلك بمنظور ديني وأخلاقي سامٍ، يجعل من أقواله في الصبر زادًا دائمًا لكل من يطلب الطمأنينة والثبات وسط العواصف.

المصادر:

1. ابن الجوزي، صيد الخاطر، تحقيق الشيخ محمد بدر الدين النعساني.

2. ابن الجوزي، المدهش.