ارتفاع كريات الدم البيضاء للحامل

ارتفاع نسبة كريات الدم البيضاء للحامل: الأسباب، المضاعفات، وطرق التقييم والعلاج

يُعتبر الحمل مرحلة دقيقة ومعقدة في حياة المرأة، تترافق مع تغيّرات فيزيولوجية هائلة تطال أجهزة الجسم كافة، ويبرز من بينها الجهاز المناعي الذي يشهد تعديلات ملحوظة تهدف إلى التكيف مع وجود الجنين داخل الرحم، وتوفير الحماية اللازمة له وللأم. ومن أبرز المؤشرات المخبرية التي تخضع للتغير خلال الحمل هي نسبة كريات الدم البيضاء (Leukocytes)، والتي تُعد أحد المعايير الرئيسية المستخدمة في تقييم الحالة الصحية والمناعية للمرأة الحامل. يشير ارتفاع هذه النسبة أحيانًا إلى استجابة طبيعية للجسم، وأحيانًا أخرى إلى وجود خلل أو عدوى تتطلب تدخلاً طبياً. يُسلّط هذا المقال الضوء على هذه الظاهرة بشكل مفصل، علمي، وواسع، مع توضيح الأسباب المحتملة، والنتائج المترتبة، وطرق التشخيص والعلاج.

التغيرات الفسيولوجية في الحمل المتعلقة بجهاز المناعة

خلال الحمل، يمر جهاز المناعة بتغيّرات عميقة لضمان عدم رفض الجنين من قِبَل جسم الأم، حيث يُعد الجنين جسماً غريباً مناعياً (لكونه يحمل جينات من الأب أيضاً). نتيجة لذلك، تحدث توازنات دقيقة بين نشاط المناعة وتثبيطها. من بين هذه التغيرات:

• ارتفاع عدد كريات الدم البيضاء، لا سيما من النوع العدلي (Neutrophils).

• انخفاض طفيف في الخلايا اللمفاوية (Lymphocytes).

• تغيّر في أنماط السيتوكينات المناعية لتنظيم الاستجابة الالتهابية.

كل هذه التغيرات تهدف إلى الحماية من العدوى وفي نفس الوقت منع رفض الجنين، ولكنها قد تجعل تفسير الفحوصات المختبرية معقدًا، وتستلزم فهماً دقيقاً لما هو طبيعي وما هو مرضي.

ما هي كريات الدم البيضاء؟

كريات الدم البيضاء هي خلايا مناعية تتكون في نخاع العظم، وتلعب دوراً حيوياً في الدفاع عن الجسم ضد العدوى والالتهابات. تُصنّف إلى عدة أنواع رئيسية:

1. العدلات (Neutrophils): تمثل 60-70% من إجمالي كريات الدم البيضاء، وهي أول خط دفاعي ضد العدوى البكتيرية.

2. اللمفاويات (Lymphocytes): تمثل 20-30%، وتلعب دوراً أساسياً في الاستجابات المناعية النوعية.

3. الوحيدات (Monocytes): تُهاجم الأجسام الغريبة الكبيرة وتتحول إلى خلايا بلعمية في الأنسجة.

4. الحمضات (Eosinophils): ترتبط بالحساسية والطفيليات.

5. القاعديات (Basophils): تسهم في التفاعلات التحسسية.

النسب الطبيعية لكريات الدم البيضاء أثناء الحمل

تختلف القيم المرجعية لكريات الدم البيضاء خلال الحمل عن القيم لدى النساء غير الحوامل، وذلك نتيجة التغيرات المناعية والفسيولوجية. في الجدول التالي، نستعرض المتوسطات المقبولة خلال المراحل المختلفة للحمل:

قد ترتفع القيم لتصل حتى 20,000 / ميكرولتر أثناء المخاض وبعد الولادة مباشرة، وهو ارتفاع فيزيولوجي نتيجة الإجهاد الجسدي والاستجابة الالتهابية الطبيعية.

الأسباب المحتملة لارتفاع كريات الدم البيضاء لدى الحامل

1. الاستجابة الفسيولوجية للحمل:

   • كما ذُكر، فإن الحمل بحد ذاته يؤدي إلى ارتفاع معتدل وطبيعي في كريات الدم البيضاء، ولا يستدعي القلق إلا إذا تجاوز الحدود المعروفة أو ترافق مع أعراض مرضية.

2. العدوى الجرثومية أو الفيروسية:

   • أي عدوى تصيب الحامل، سواء كانت التهابات المسالك البولية، التهاب الحلق، أو حتى التهابات الرئة، قد تؤدي إلى ارتفاع واضح في عدد كريات الدم البيضاء، مع تغييرات نوعية (مثل زيادة العدلات).

3. التهاب المشيمة أو السلى (Chorioamnionitis):

   • عدوى خطيرة تصيب الأغشية المحيطة بالجنين، وقد تُنذر بمضاعفات خطيرة إن لم تُعالج.

4. الاضطرابات الالتهابية المزمنة:

   • مثل الذئبة الحمراء، والتهابات القولون المزمنة، والروماتويد، قد تؤدي إلى ارتفاع مزمن في عدد كريات الدم البيضاء.

5. الحساسية أو الربو:

   • قد تُصاحب حالات الحساسية أو نوبات الربو ارتفاعاً في بعض أنواع الكريات مثل الحمضات.

6. الإجهاد الجسدي أو النفسي:

   • قد يؤدي التوتر الشديد أو المجهود البدني المفرط إلى زيادة مؤقتة في عدد كريات الدم البيضاء.

7. بعض أنواع الأورام الدموية:

   • نادرة خلال الحمل، لكنها قد تترافق مع ارتفاع حاد وغير مبرر في الكريات البيضاء، مثل اللوكيميا.

العلامات السريرية المصاحبة التي تستدعي الانتباه

لا يكفي الاعتماد فقط على التحاليل الدموية، بل يجب ربط النتائج بالأعراض السريرية التي تظهر على الحامل، ومنها:

• الحمى وارتفاع درجة الحرارة.

• التعب الشديد غير المبرر.

• آلام في البطن أو الظهر.

• ضيق في التنفس.

• تورم غير طبيعي أو نزف مهبلي.

• إفرازات مهبلية غير طبيعية أو ذات رائحة كريهة.

وجود مثل هذه الأعراض يتطلب تدخلاً طبياً فوريًا وتوسيع نطاق الفحوصات لمعرفة السبب الدقيق.

كيفية التشخيص

يعتمد تشخيص الحالة على الدمج بين الفحص السريري، والاختبارات المخبرية، والفحوصات الإضافية إذا لزم الأمر. وتشمل الخطوات ما يلي:

• العد الدموي الكامل (CBC): لتحديد نوع الكريات المرتفعة.

• اختبارات الالتهاب (CRP وESR): لتقييم وجود التهابات.

• تحليل البول: للكشف عن التهابات المسالك البولية.

• زرع الدم أو البول: لتحديد وجود بكتيريا ممرضة.

• تصوير بالأمواج فوق الصوتية (Ultrasound): للكشف عن علامات التهابات في المشيمة أو الرحم.

المضاعفات المحتملة لارتفاع كريات الدم البيضاء خلال الحمل

في حال كان الارتفاع ناجماً عن أسباب مرضية ولم يُعالج، فقد يؤدي إلى مضاعفات تؤثر على الأم والجنين، مثل:

• الولادة المبكرة: نتيجة الالتهابات المهبلية أو المشيمية.

• تمزق الأغشية الباكر (PROM): ما يرفع خطر العدوى داخل الرحم.

• نقص نمو الجنين داخل الرحم (IUGR): بسبب تأثير الالتهابات المزمنة على المشيمة.

• تسمم الحمل: قد يترافق مع تغيرات مناعية وكيميائية تؤدي إلى ارتفاع الكريات.

• زيادة احتمالية اللجوء إلى الولادة القيصرية.

كيفية التعامل الطبي مع ارتفاع كريات الدم البيضاء

يعتمد العلاج على السبب المؤدي لارتفاع كريات الدم البيضاء، ولا يُنصح أبداً بإعطاء أي دواء دون تشخيص دقيق، خاصة خلال الحمل. الخطوات المتبعة عادة تشمل:

1. المراقبة فقط: في حال كان الارتفاع فسيولوجياً دون أعراض، يُكتفى بالمتابعة الدورية.

2. العلاج بالمضادات الحيوية: إذا تم تشخيص عدوى بكتيرية.

3. الأدوية المضادة للالتهابات: في حال وجود أمراض مناعية مزمنة (بإشراف دقيق من الطبيب).

4. الراحة وتقليل التوتر: مع تحسين نمط الحياة والتغذية الصحية.

5. المتابعة الدورية: بإجراء فحوصات دورية للتأكد من رجوع النسب إلى الحدود الطبيعية.

التوصيات الغذائية والمناعية للحامل للحد من الالتهابات والعدوى

تلعب التغذية دوراً جوهرياً في تعزيز المناعة وتثبيت التوازن في الجهاز المناعي. ومن أبرز النصائح:

• تناول أطعمة غنية بمضادات الأكسدة (مثل الفواكه والخضروات الطازجة).

• الحصول على كميات كافية من الحديد والزنك وفيتامين D.

• تجنب الأطعمة المصنعة والمعلبات.

• شرب كميات كافية من الماء (2-3 لتر يومياً).

• ممارسة رياضة خفيفة مثل المشي.

• تجنب مصادر العدوى (الازدحام، الاختلاط بالمرضى).

خلاصة علمية

ارتفاع كريات الدم البيضاء عند الحامل يُعد من الظواهر الشائعة والتي غالبًا ما تكون فسيولوجية. ومع ذلك، فإن تجاوز النسب المتعارف عليها أو ظهور أعراض سريرية مقلقة قد يشير إلى وجود حالة مرضية كامنة تتطلب تقييمًا دقيقًا وتدخلاً طبياً. يعتمد التدبير السليم على فهم الخلفية المناعية للحمل، وربط نتائج التحاليل بالحالة السريرية، مع الاعتماد على أساليب التشخيص المتكاملة. العناية الطبية المنتظمة، والوعي الصحي، والتغذية السليمة، جميعها عوامل أساسية لضمان حمل آمن وسليم للأم والجنين.

المراجع:

1. Cunningham FG, Leveno KJ, Bloom SL, et al. Williams Obstetrics, 25th Edition. McGraw-Hill Education, 2018.

2. Rouse DJ, et al. “Maternal Leukocytosis during Pregnancy and Its Clinical Relevance.” American Journal of Obstetrics and Gynecology, 2004.