اختيار العمى على الهدى في القرآن

تفسير آية (فاستحبوا العمى على الهدى)

تُعتبر آية (فاستحبوا العمى على الهدى) من الآيات القرآنية التي تحمل في طياتها معانٍ عميقة ودروسًا بليغة في فهم طبيعة الإنسان وعلاقته بالحق والهدى، إضافة إلى توضيح كيف يمكن أن يختار الإنسان أن يعمي قلبه عن الحق ويصر على الضلال رغم وضوحه. هذه الآية الكريمة وردت في سياق سورة الكهف، وتحديدًا في قوله تعالى:

“وَقِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * إِنَّمَا نَحْنُ نُورِثُهَا وَمَا كُنَّا مُسْبِقِينَ * فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ” (الكهف: 50-51).

هذه الآية تأتي بعد خطاب الله تعالى لقوم الظالمين الذين رفضوا الحق، واستبدلوا الضلالة بوعي وقرار، مما يؤكد أن الضلال في بعض الحالات يكون اختيارًا واعيًا، لا مجرد جهل أو غفلة.

شرح مفصل للآية ومفرداتها

كلمة (فاستحبوا):

في اللغة العربية، “استحب” تعني اختيار الشيء حبًا له، وترجيحه على غيره، وهي تدل على اختيار مفضّل. واللفظ في صيغة الماضي مع الفاء يفيد التعقيب، أي بعد أن استُعرضت الأسباب والدلائل، وقع الاختيار منهم على العمى.

كلمة (العمى):

العمى في اللغة هو فقدان البصر، ولكن في القرآن الكريم غالبًا ما يُستخدم مجازيًا للدلالة على عدم البصيرة، وقلة الإدراك، والجمود في القلب. فهو لا يشير فقط إلى فقدان الحاسة البصرية، بل إلى فقدان البصيرة العقلية والروحية.

كلمة (الهدى):

الهدى هو الحق والضوء الذي يهدي إلى الطريق المستقيم، وهو إرشاد الله للناس بالحق، سواء كان هدى عقليًا أو شرعيًا أو خلقيًا.

السياق القرآني والمعنى الكلي للآية

الآية تشير إلى أن هناك من الناس من يرى الحق أمامه واضحًا كوضوح الشمس، لكنه يفضل الضلال، ويختار العمى على الهدى، أي يختار أن يعمي قلبه وعقله عن الحق، ويرفضه عن قصد واختيار.

وهذا يتناقض مع الفطرة السليمة التي جبل الله الناس عليها، والتي تدعو إلى تحصيل المعرفة والهدى. فالإنسان المكلّف مسؤول أمام الله عن اختياراته، ولا يبرر له الضلال بحجة الجهل أو عدم الفهم في الحالات التي تظهر له فيها الحقائق بوضوح.

تفسير العلماء للآية

1. تفسير ابن كثير:
   
   يرى ابن كثير أن هذه الآية تعبر عن اختيار الظالمين للضلال بعد أن تبين لهم الحق، حيث فضلوا العمى الذي هو كناية عن جهل القلب وعدم قبوله الهداية، على الهدى الذي هو الحق الواضح.

2. تفسير الطبري:
   
   يشير الطبري إلى أن المعنى أن الظالمين قد عرفوا الحق وظهرت لهم طريق الهداية، ولكنهم أبوا أن يسيروا فيها، فاختاروا أن يعموا عن الحق ويستمروا في ظلمات الجهل والضلال.

3. تفسير القرطبي:
   
   يفسر القرطبي العمى هنا بالجمود على الكفر والضلال، وعدم الإنصات إلى الحق، وهو عمى عن البصيرة والهدى رغم ظهوره، وهو نوع من العناد واختيار الباطل.

الحكمة من اختيار العمى على الهدى

إن اختيار العمى على الهدى في هذا السياق يعبر عن حالة نفسية وروحية بالغة الخطورة، حيث يصبح الإنسان متمسكًا بضلاله حتى لو كان على علم بالحقائق. وهذا الاختيار قد ينشأ من أسباب متعددة منها:

• الغرور والكبر: يشعر الإنسان بأنه أعلم وأحكم، ويرفض أن يخضع للهداية أو يعترف بخطئه.

• التعلق بالدنيا والشهوات: قد يفضل الإنسان طريق الضلال لأنّه يؤدي إلى ملذاته المادية أو هو مريح بالنسبة له، رغم علمه بضرره الأخروي.

• الجهل الروحي أو ضعف الإيمان: في بعض الأحيان يكون ضعف العلاقة بالله سببًا في عدم قبول الهدى.

• التأثير الاجتماعي والثقافي: قد يكون الإنسان محاطًا ببيئة تحثه على رفض الحق أو تغطي عليه نور الهداية.

أثر اختيار العمى على الفرد والمجتمع

اختيار العمى على الهدى لا يؤثر فقط على الفرد، بل له انعكاسات واسعة على المجتمع كله:

• اضطراب القيم والمبادئ: يؤدي إلى انتشار الفساد والظلم.

• ضعف البناء الأخلاقي والاجتماعي: لأن القيم الأخلاقية تعتمد على الحق والعدل.

• فقدان السكينة والسلام النفسي: يعيش الإنسان في حالة صراع داخلي دائم بسبب التنافر بين إدراكه والاختيار الذي أجراه.

• التأثير السلبي على الأجيال القادمة: إذ يتوارث المجتمع هذه الظلال الفكرية والسلوكية.

الفرق بين العمى المادي والعمى الروحي

غالبًا ما يكون العمى في القرآن الكريم مرادفًا للعمى الروحي والفكري، وليس فقط فقدان البصر الحسي. وهذا فرق مهم لفهم الآية. فالشخص قد يرى بعينيه لكنه يكون أعمى عن إدراك الحقائق الروحية والعقلية، وهذا أشد وأخطر لأنه يمنع الإنسان من التغيير والنمو.

العلاقة بين العمى والهدى في القرآن الكريم

القرآن يربط بين هذين المفهومين كثيرًا، حيث يدعو الله عباده إلى طلب الهدى والنور، ويحذرهم من العمى الذي هو فقدان البصيرة. وفي مواضع أخرى:

• “وَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ” (الأنعام: 125)،

• مما يوضح أن الضيق والعمى الروحي هما من علامات الضلال.

الدروس المستفادة من تفسير الآية

• مسؤولية الإنسان: الإنسان مسؤول عن اختياراته سواء بالهدى أو بالضلال، فلا يبرر اختيار العمى بالجهل فقط.

• ضرورة التمعن في الحقائق: على الإنسان أن يسعى لفهم الحقائق حتى لا يكون من الذين يفضلون العمى على الهدى.

• التحذير من الغرور والتمسك بالباطل: هذه الصفات تجر الإنسان إلى العمى الروحي.

• أهمية التوبة والرجوع إلى الله: فاختيار العمى ليس حالة نهائية، والفرصة مفتوحة دائمًا للعودة إلى الهداية.

جدول توضيحي: مقارنة بين العمى والهدى في السياق القرآني

خاتمة

آية (فاستحبوا العمى على الهدى) تعبر عن حقيقة نفسية وروحية عميقة في الإنسان، حيث يمكن أن يكون الإنسان على علم بالحق، لكنه يختار أن يغلق قلبه وعقله عنه، مفضلًا العمى الروحي على النور والهداية. هذا الاختيار يحمل في طياته إنذارًا وتحذيرًا بليغًا من عواقب التمادي في الضلال، ويعكس مدى أهمية البصيرة والإيمان في حياة الإنسان. الآية تدفع القارئ إلى التأمل في سلوكياته، والحرص على السعي المستمر نحو الهدى، وعدم إغلاق باب الوعي والقلب أمام الحق مهما كانت التحديات. فهي تبرز التوازن الدقيق بين الاختيار الإنساني والحق الإلهي، وتؤكد أن الضلال قد يكون اختيارًا متعمدًا وليس مجرد نتيجة للجهل أو الصدفة.