اختلال الآنية: الأسباب والعلاج

اختلال الآنية: الأعراض، الأسباب، التشخيص والعلاج

يُعدّ “اختلال الآنية” (Depersonalization) من الاضطرابات النفسية المعقدة التي لا تزال تحيّر الكثير من الأطباء والباحثين بسبب طبيعتها الغامضة وتأثيرها العميق على إدراك الشخص لذاته. هذا الاضطراب، الذي يُصنّف في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية ضمن “اضطرابات الانفصال” (Dissociative Disorders)، يتجلّى في شعور الفرد بالانفصال عن ذاته، وكأنّه يراقب نفسه من الخارج أو يعيش في حلم لا يمكنه الاستيقاظ منه. يمكن أن يكون هذا الشعور مؤقتًا ويظهر كرد فعل حاد على ضغط نفسي شديد، أو يتحول إلى اضطراب مزمن يؤثر في حياة المصاب بشكل مستمر.

هذا المقال يستعرض بعمق علمي ونفسي مفهوم اختلال الآنية، أسبابه المحتملة، أعراضه السريرية، كيفية تشخيصه، والعلاجات المتاحة له، مستندين إلى أحدث الأبحاث والمراجع النفسية الموثوقة.

تعريف اختلال الآنية

اختلال الآنية هو اضطراب إدراكي نفسي يعاني فيه الفرد من شعور مستمر أو متكرر بأنّه منفصل عن أفكاره أو جسده أو مشاعره. لا يعني هذا فقدانًا للوعي أو الهذيان، بل على العكس، يحتفظ الشخص بإدراكه الكامل للواقع، لكنه يشعر بأنّ ذاته غير حقيقية أو كأنها “بعيدة” عنه.

يصف الكثيرون هذه الحالة بأنها “فقدان للانغماس في الذات” أو “تجربة خارجة عن الجسد”، حيث يشعر المريض وكأنه يشاهد نفسه من منظور خارجي، أو كأنه ممثل في فيلم يشاهده دون تفاعل مباشر مع أحداثه.

الفرق بين اختلال الآنية واختلال الواقع

في سياق الحديث عن اختلال الآنية، غالبًا ما يتم الخلط بينه وبين “اختلال الواقع” (Derealization). اختلال الواقع يتمثل في شعور الفرد بأن البيئة المحيطة به غير حقيقية أو ضبابية، بينما اختلال الآنية يركّز على الذات، أي أن الشخص يشعر بأن جسده أو نفسه “غريبة” أو “غائبة”. في بعض الحالات، يعاني المرضى من كلا العرضين في الوقت نفسه، ويُعرف ذلك باسم “اختلال الآنية واختلال الواقع المشترك” (Depersonalization-Derealization Disorder).

الأعراض السريرية لاختلال الآنية

تتعدد الأعراض التي تظهر على المصابين بهذا الاضطراب، وتختلف في شدتها ومدّتها من شخص لآخر، ومن أبرزها:

• شعور بالانفصال عن الذات: كأن الشخص يشاهد نفسه من خارج الجسد أو أن صوته لا يخصه.

• فقدان الشعور بالانفعالات: قد يشعر المريض ببرود عاطفي غير مألوف، حيث لا يستجيب للمواقف المؤثرة كما اعتاد سابقًا.

• تشوش في الإدراك الحسي: رؤية الأشياء بشكل باهت أو ضبابي، أو الشعور بأن العالم غير واقعي.

• صعوبات في التركيز: انخفاض حاد في الانتباه، وصعوبة في تنظيم الأفكار.

• شعور بالانفصال الزمني: الإحساس بأن الوقت يتحرك ببطء شديد أو بسرعة غير طبيعية.

• قلق وجودي حاد: تساؤلات متكررة حول طبيعة الذات والواقع، وشعور بالضياع.

الأسباب والعوامل المرتبطة باختلال الآنية

على الرغم من عدم وجود سبب وحيد أو مباشر يؤدي إلى اختلال الآنية، إلا أن هناك مجموعة من العوامل النفسية والعصبية والاجتماعية التي تسهم في ظهوره، من أبرزها:

1. الضغوط النفسية الشديدة

كالتعرض لحادث صادم، أو وفاة شخص مقرّب، أو تجربة مؤلمة في الطفولة مثل الإهمال أو سوء المعاملة.

2. القلق المزمن واضطرابات القلق

يرتبط اختلال الآنية في كثير من الأحيان بحالات القلق العام، ونوبات الهلع، حيث يظهر كرد فعل دفاعي من العقل لتقليل تأثير التوتر الشديد.

3. الاكتئاب

قد يترافق مع الشعور بالفراغ واللامبالاة، مما يسهم في تجارب الانفصال عن الذات.

4. الحرمان من النوم

قلة النوم أو الأرق المزمن يمكن أن تؤدي إلى اضطرابات في الإدراك تشبه أعراض اختلال الآنية.

5. تعاطي المخدرات

خصوصًا المهلوسات مثل LSD والحشيش والمواد المسببة للذهان، حيث تؤدي إلى تشوش حسي ونفسي يمكن أن يتحول إلى اختلال آنية مزمن.

6. عوامل عصبية

بعض الدراسات أشارت إلى احتمالية ارتباط هذا الاضطراب بخلل في مناطق معينة من الدماغ، خصوصًا الفص الجبهي والفص الصدغي، المسؤولة عن الإدراك الذاتي والوعي.

تشخيص اختلال الآنية

يعتمد التشخيص في المقام الأول على التقييم الإكلينيكي الدقيق من قبل طبيب نفسي أو أخصائي في الصحة العقلية. لا توجد فحوصات مختبرية مباشرة لاكتشاف هذا الاضطراب، ولكن يُستخدم التاريخ الطبي والفحص النفسي لتحديد ما إذا كانت الأعراض ناتجة عن اختلال الآنية أو مرتبطة باضطراب نفسي أو عضوي آخر.

معايير التشخيص حسب DSM-5:

• وجود تجارب مستمرة أو متكررة من الانفصال عن الذات (اختلال آنية) و/أو الانفصال عن الواقع (اختلال واقع).

• بقاء إدراك الواقع سليمًا رغم تلك التجارب.

• تسبب هذه الأعراض ضيقًا نفسيًا كبيرًا أو خللًا في الأداء الاجتماعي أو المهني.

• عدم ارتباط الأعراض بتأثير مباشر لمادة مخدّرة أو حالة طبية.

اختلال الآنية عند الأطفال والمراهقين

قد يظهر اختلال الآنية في سن مبكرة نتيجة التعرض لصدمات نفسية أو بيئة منزلية مضطربة. الأطفال قد يجدون صعوبة في التعبير عن هذه الأعراض، ويعبرون عنها بعبارات مثل: “أشعر أني لست أنا” أو “أشعر كأنني في حلم”. التشخيص في هذه الفئة العمرية يتطلب انتباهًا خاصًا من المختصين والأسرة.

العلاج النفسي والدوائي

رغم أن اختلال الآنية يُعدّ من الحالات المعقدة في العلاج، فإن الجمع بين العلاج النفسي والدعم الدوائي أثبت فعالية في تحسين الأعراض لدى كثير من المرضى.

1. العلاج المعرفي السلوكي (CBT)

يُعتبر من أنجع أساليب العلاج، حيث يركّز على تغيير طريقة تفكير المريض واستجابته لتجاربه. يعمل على:

• فهم طبيعة الأعراض.

• تقليل الحساسية تجاه مشاعر الانفصال.

• كسر دائرة القلق والتفكير المفرط.

2. العلاج السلوكي الجدلي (DBT)

مفيد خاصة إذا كان المريض يعاني من اضطرابات شخصية مرافقة، ويهدف إلى تحسين مهارات التنظيم العاطفي والوعي بالذات.

3. العلاج بالتعرض والوقاية من الاستجابة

يستخدم بشكل خاص إذا كان اختلال الآنية مصحوبًا بنوبات هلع، حيث يساعد المريض على مواجهة المشاعر المخيفة دون تجنبها.

4. الأدوية

لا توجد أدوية مخصصة بشكل حصري لاختلال الآنية، لكن بعض العقاقير النفسية أثبتت فاعلية جزئية، مثل:

الاستراتيجيات الذاتية والدعم المجتمعي

بالإضافة إلى العلاج المهني، هناك مجموعة من الأساليب التي قد تساعد المريض في السيطرة على الأعراض وتحسين جودة الحياة:

• تقنيات التأمل والوعي الذاتي (Mindfulness): تساعد على إعادة الارتباط بالجسد واللحظة الحالية.

• التمارين البدنية المنتظمة: تسهم في تقليل مستويات القلق وتحفيز إفراز الإندورفين.

• تجنب المنشطات: مثل الكافيين والنيكوتين، لأنها قد تزيد من التوتر وتحفّز الأعراض.

• الانخراط في أنشطة واقعية: مثل الأعمال اليدوية أو الرياضات الجماعية التي تتطلب انتباهًا جسديًا وذهنيًا.

• الدعم الأسري: دور الأسرة مهم في تقديم التفهم وعدم التقليل من معاناة المصاب.

المضاعفات المحتملة

في حال لم يتم علاج اختلال الآنية، قد يتحول إلى اضطراب مزمن ويؤثر على الأداء الوظيفي والاجتماعي للمريض. كما قد يؤدي إلى:

• تطور اضطرابات نفسية مرافقة كالاكتئاب الشديد.

• العزلة الاجتماعية نتيجة الانفصال العاطفي.

• صعوبات في العلاقات العاطفية.

• الأفكار الوجودية السلبية أو الميل للعدمية.

الخلاصة

اختلال الآنية هو اضطراب نفسي عميق يصيب إدراك الإنسان لذاته، ويُعدّ استجابة معقدة لعوامل بيولوجية ونفسية وبيئية. يتطلب هذا الاضطراب اهتمامًا خاصًا من حيث التشخيص والعلاج، وهو قابل للتحسن في ظل تدخل نفسي مناسب ومبكر. تكمن قوة العلاج في الدمج بين فهم علمي دقيق للأعراض، وأساليب علاجية فعالة تراعي الأبعاد النفسية والشخصية للمصاب. دعم الأسرة والبيئة المحيطة يمثلان دعامة أساسية في رحلة التعافي.

المراجع:

1. Simeon, Daphne & Abugel, Jeffrey. Feeling Unreal: Depersonalization Disorder and the Loss of the Self. Oxford University Press, 2006.

2. American Psychiatric Association. Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders, 5th Edition (DSM-5). Washington, DC, 2013.