احتضان الأطفال يحسن قدراتهم الذهنية

يُعد الاحتضان من أقدم وسائل التعبير عن الحب والدعم العاطفي في العلاقات الإنسانية، وقد أثبتت الأبحاث العلمية الحديثة أن هذا الفعل البسيط يحوي في طياته قدرة هائلة على التأثير في نمو الدماغ وتطور القدرات الذهنية لدى الأطفال. الاحتضان لا يقتصر فقط على كونه وسيلة للتعبير عن الحنان، بل يشكل أداة فعالة في تعزيز الصحة النفسية والعاطفية والمعرفية للطفل منذ المراحل الأولى من حياته. إن العلاقة الوثيقة بين الجسد والعقل تبرز بشكل جليّ في هذا السياق، حيث تُترجم اللمسات الجسدية الحنونة إلى تفاعلات عصبية هامة تُسهم في تطور الدماغ ونضج الوظائف الإدراكية.

التأثير العصبي للاحتضان على الدماغ

عند احتضان الطفل، يتم تحفيز العديد من الأنظمة العصبية، أبرزها نظام الأوكسيتوسين، والذي يُعرف بهرمون الحب أو هرمون الترابط الاجتماعي. هذا الهرمون يُفرز من الغدة النخامية ويُحدث سلسلة من التأثيرات الكيميائية في الدماغ تُسهم في تهدئة الطفل، وتقليل مستويات الكورتيزول، وهو هرمون التوتر. من خلال تقليل التوتر، يسمح الأوكسيتوسين للدماغ بأن يركز على المهام المعرفية، مما يُعزز من قدرة الطفل على التعلم والانتباه.

تشير الدراسات إلى أن الأطفال الذين يتلقون كميات أكبر من العناق والاحتضان من قبل الوالدين أو مقدمي الرعاية لديهم مستويات أعلى من الأوكسيتوسين في دمائهم، وهي حالة ترتبط بزيادة المرونة العصبية – أي قدرة الدماغ على بناء مسارات عصبية جديدة وتحسين المهارات الذهنية مثل الذاكرة، التحليل، وحل المشكلات.

الاحتضان كوسيلة لتكوين الروابط العصبية

خلال السنوات الأولى من الحياة، يكون الدماغ في مرحلة النمو السريع، حيث تتشكل ملايين الوصلات العصبية الجديدة يوميًا. هذا النمو المتسارع يتأثر بشكل مباشر بالتجارب الحسية والعاطفية التي يتعرض لها الطفل. الاحتضان، كتحفيز جسدي وعاطفي في آنٍ واحد، يرسل إشارات إلى الدماغ لتحفيز المناطق المسؤولة عن الوظائف المعرفية كالقشرة الجبهية (Prefrontal Cortex)، وهي المنطقة التي تُعنى بالتركيز، اتخاذ القرار، التنظيم الذاتي، والمرونة المعرفية.

تشير دراسات تصوير الدماغ إلى أن الأطفال الذين تعرضوا لمزيد من اللمسات الإيجابية والاحتضان يُظهرون نشاطاً أكبر في مناطق الدماغ المسؤولة عن الاستجابة الاجتماعية والإدراك المعرفي. وبهذا، يكون الاحتضان بمثابة بيئة تعليمية عصبية تُعزز تطور الوظائف العقلية على نحو طبيعي وتدريجي.

تحسين مهارات التعلم والانتباه

من أهم العناصر التي يحتاجها الطفل لاكتساب المعرفة هو الشعور بالأمان والراحة النفسية. الاحتضان يعزز هذا الشعور لدى الطفل، فيقلل من خوفه وقلقه، ويزيد من شعوره بالطمأنينة، مما يتيح له الانخراط بشكل أعمق في الأنشطة التعليمية. الأطفال المحتضنون بشكل متكرر يظهرون سلوكاً أكثر هدوءاً في الصفوف الدراسية، مع قدرة أعلى على التركيز والتفاعل مع المحتوى التعليمي.

كما أن الاحتضان يدعم نمو الذاكرة من خلال تحفيز مناطق في الدماغ كالحُصين (Hippocampus)، المسؤول عن تخزين واسترجاع المعلومات. ويُعد الحُصين أحد أكثر مناطق الدماغ تأثراً بالتجارب العاطفية في مرحلة الطفولة، فكلما كانت هذه التجارب إيجابية، زاد نشاط الحُصين وتحسنت كفاءة تخزين واسترجاع المعلومات.

الاحتضان والذكاء العاطفي

إلى جانب المهارات الذهنية البحتة، يلعب الاحتضان دورًا كبيرًا في بناء الذكاء العاطفي لدى الأطفال. الذكاء العاطفي لا يقل أهمية عن الذكاء الأكاديمي، فهو يؤثر على قدرة الطفل في التعاطف، فهم مشاعر الآخرين، وضبط الانفعالات. الأطفال الذين يُحتضنون باستمرار يتعلمون من خلال التجربة المباشرة كيفية التعبير عن مشاعرهم بطريقة صحية، ويكتسبون قدرة أعلى على التفاعل الاجتماعي الإيجابي.

تشير دراسات متعددة في علم النفس التنموي إلى أن الأطفال الذين يتلقون دعمًا عاطفيًا من خلال الاحتضان يكونون أكثر قدرة على بناء علاقات اجتماعية مستقرة، ويظهرون درجات أعلى من الوعي الذاتي والتفاعل مع بيئاتهم التعليمية والاجتماعية.

الاحتضان كوسيلة للوقاية من الاضطرابات النفسية

الاحتضان المتكرر يُعد بمثابة وقاية ضد العديد من الاضطرابات النفسية التي قد تؤثر سلبًا على القدرات الذهنية. فالحرمان العاطفي في الطفولة يرتبط بزيادة خطر الإصابة بالاكتئاب، القلق، واضطرابات التعلق، وكلها حالات تؤثر سلبًا على الأداء العقلي والمعرفي. أما الطفل الذي يشعر بالاحتواء الجسدي والعاطفي، فإنه يُطور آليات نفسية صحية للتعامل مع الضغوط، ويكون أكثر قدرة على الاستقرار العاطفي والتركيز العقلي.

الأثر التراكمي للاحتضان عبر مراحل النمو

لا يقتصر دور الاحتضان على السنوات الأولى من الطفولة، بل إن استمرارية هذا السلوك عبر مراحل الطفولة المختلفة يساهم في تعزيز التنمية المستدامة للقدرات الذهنية. في كل مرحلة من مراحل النمو، يواجه الطفل تحديات معرفية وعاطفية جديدة، ويُعد الاحتضان وسيلة فعالة لدعمه وتثبيت الثقة بنفسه وقدرته على التعلم. في سن المدرسة، يُسهم الاحتضان في تخفيف القلق المرتبط بالاختبارات والمواقف الاجتماعية الجديدة. وفي سن المراهقة، يكون الاحتضان وسيلة لتعزيز الاستقرار النفسي وسط التقلبات الهرمونية والعاطفية، مما ينعكس إيجاباً على الأداء الأكاديمي والوظائف الذهنية.

جدول: المقارنة بين الأطفال المحتضنين وغير المحتضنين وتأثير ذلك على المهارات الذهنية

أهمية دور الوالدين ومقدمي الرعاية

الاحتضان لا يتطلب أدوات ولا موارد مادية، بل يحتاج إلى الوعي بأهميته والنية الصادقة في منح الطفل الحنان والدعم. على الوالدين أن يدركوا أن كل لحظة عناق هي استثمار طويل الأمد في صحة طفلهم النفسية والذهنية. كما أن تكرار هذا الفعل يعزز من الترابط الأسري ويُبني جسرًا من الثقة بين الطفل وأسرته، وهو ما يُعد حجر الزاوية في تنشئة شخصية متوازنة وناجحة.

ومن المهم تدريب مقدمي الرعاية في دور الحضانة والمدارس الابتدائية على كيفية استخدام اللمسات الآمنة والداعمة كجزء من البيئة التربوية، لتوفير مناخ يساعد الأطفال على التفوق الذهني والنفسي.

الختام: العناق كأداة تنموية شاملة

إن احتضان الطفل ليس مجرد تعبير عن حب، بل هو تدخل تنموي شامل يدعم نمو الدماغ، يُعزز من الكفاءة المعرفية، ويُوفر بيئة عاطفية مثالية لتطوير الذكاء والمرونة النفسية. في ظل التقدم المستمر في فهم علم الأعصاب، تزداد الأدلة التي تؤكد أن المشاعر الدافئة تترجم إلى تطور حقيقي في بنية الدماغ ووظائفه. فالطفل الذي يُحتضن يُدرك أنه محبوب وآمن، وهذا الشعور هو مفتاح لفتح أبواب القدرة الذهنية والتفوق المستقبلي.

المراجع

1. Feldman, R. (2012). Oxytocin and social affiliation in humans. Hormones and Behavior, 61(3), 380-391.

2. Perry, B. D., & Szalavitz, M. (2017). The Boy Who Was Raised as a Dog: And Other Stories from a Child Psychiatrist’s Notebook. Basic Books.