ابن نُجيم الفقيه الحنفي

ابن نُجيم: حياته، آثاره، وأثره في الفقه الإسلامي

يُعَدّ الشيخ زين الدين بن نُجيم المصري أحد أبرز الفقهاء في التاريخ الإسلامي، خاصة في المذهب الحنفي، وواحداً من الرموز التي تركت أثراً عميقاً في تطور الفقه والقانون الإسلامي في العصور المتأخرة. شكّلت مؤلفاته مرجعًا لا يُستغنى عنه في المدونات الفقهية والقضائية، وامتاز بتحقيقه الدقيق، واستيعابه العميق لمصادر الشريعة الإسلامية، وقدرته على المقارنة والترجيح بين الروايات والآراء الفقهية داخل المذهب الحنفي. هذا المقال يُفصل سيرة هذا العالم الكبير، ويستعرض مؤلفاته، ومدرسته العلمية، والأثر الذي تركه في مسار الاجتهاد الفقهي الإسلامي.

النشأة والبيئة العلمية

ولد ابن نُجيم في مصر، في القرن العاشر الهجري، الموافق للقرن السادس عشر الميلادي، واسمه الكامل هو زين الدين بن إبراهيم بن محمد بن نُجيم المصري الحنفي. نشأ في بيئة علمية خصبة، حيث كانت القاهرة حينها مركزاً حضارياً وعلمياً مزدهراً، احتضنت العديد من العلماء والمدارس الفقهية، وخاصة في الأزهر الشريف، الذي كان يشكّل نواة الحركة العلمية في العالم الإسلامي.

ينتمي ابن نُجيم إلى أسرة علمية عريقة، فقد كان والده إبراهيم بن نُجيم أيضاً من العلماء المعروفين، ودرس على يديه في بدايات حياته. كما تلقى العلم على يد كبار العلماء في عصره، مثل الشيخ شمس الدين الرملي، والعلامة الكمال بن الهمام، وغيرهم من الفقهاء المتميزين الذين أثّروا في تكوينه العلمي والفقهي.

التكوين الفقهي والعلمي

تشرّب ابن نُجيم علوم الشريعة منذ نعومة أظافره، ودرس الفقه الحنفي بمدارسه المختلفة، وكذلك علم أصول الفقه، وعلم الحديث، والنحو، والتفسير. ولم يكتفِ بمجرد التلقي، بل اشتهر بالتحقيق والتمحيص، والتعليق على المسائل، والقدرة على الربط بين القواعد الفقهية والمسائل الجزئية. ومما يُذكر عنه أنه كان واسع الاطلاع، دقيق الفهم، قوي الحافظة، ذا نفس طويل في المناقشة والتحليل.

وقد برع بشكل خاص في علم القواعد الفقهية، وترك فيه أعظم أثر، حتى أصبحت مصنفاته في هذا المجال مرجعاً أساسياً لكل من أراد فهم منطق الفقه الحنفي وآلياته في الاستنباط.

أبرز مؤلفاته

ترك ابن نُجيم العديد من المؤلفات التي بقيت معتمدة حتى يومنا هذا، ولا تزال تدرّس وتُطبع في العالم الإسلامي. ومن أهم هذه المؤلفات:

1. الأشباه والنظائر

يُعتبر هذا الكتاب من أشهر ما كتب ابن نُجيم، وهو من أبرز الكتب في القواعد الفقهية في المذهب الحنفي. قسم فيه القواعد الفقهية إلى ست قواعد كبرى تدور حولها آلاف المسائل، وهي:

• الأمور بمقاصدها.

• اليقين لا يزول بالشك.

• الضرر يُزال.

• المشقة تجلب التيسير.

• العادة محكمة.

• الضرورات تبيح المحظورات.

وقد توسع في شرح هذه القواعد، واستعرض عشرات القواعد الفرعية المندرجة تحتها، وضمّن الكتاب ثروة فقهية كبيرة من الأمثلة التطبيقية، مما جعله مرجعاً أساسياً لكل باحث في الفقه المقارن والقواعد الكلية.

2. البحر الرائق شرح كنز الدقائق

وهو من أوسع شروح “كنز الدقائق” للنسفي، أحد المتون المعتمدة في الفقه الحنفي. ويُعتبر هذا الكتاب من الشروح الكبرى، إذ لا يكتفي فيه ابن نُجيم بشرح الألفاظ، بل يتناول الأدلة، والترجيحات، ويعرض أقوال المذاهب الأخرى، ويفصّل في المقارنات الفقهية.

يُعدّ هذا المؤلف نموذجاً راقياً في الكتابة الفقهية التحليلية، ويشهد على قدرة ابن نُجيم الفائقة في ترتيب الأفكار، وربط المسائل، وتحقيق النصوص.

3. فتح الغفار بشرح المنار

وهو شرح على كتاب “المنار في أصول الفقه”، حيث يُظهر فيه عمق اطلاعه على علم أصول الفقه، ويبيّن مكانته في المدارس الحنفية، مع تمكّن واضح في التحليل المنطقي واستيعاب أدلة التشريع.

المدرسة الفقهية التي أسّسها

يمكن اعتبار ابن نُجيم مؤسسًا لمدرسة علمية متميزة داخل الفقه الحنفي، تقوم على:

• التركيز على القواعد الفقهية كأساس لفهم الجزئيات.

• العناية بالمقارنة بين الأقوال داخل المذهب، مع إيراد الترجيحات بناءً على الدليل والمقصد الشرعي.

• اعتماد أسلوب التحقيق العلمي والتمحيص في تتبع الروايات الفقهية المختلفة.

• الربط بين علم الفقه وعلم أصول الفقه، وإبراز آليات الاستنباط الفقهي في جميع المؤلفات.

تميزت مدرسته أيضًا بالوضوح والدقة، وبالتركيز على الأثر العملي للفقه، فكان فقهه يُدرّس ليس فقط لطلبة العلم، بل للقضاة والمفتين أيضًا.

أثره في الفقه الإسلامي والقضاء

امتد تأثير ابن نُجيم بعد وفاته لعدة قرون، وظلّ العلماء يعتمدون على مؤلفاته في التدريس والإفتاء والقضاء، وخصوصًا كتابيه “الأشباه والنظائر” و”البحر الرائق”. وقد استفاد من كتبه العديد من العلماء في مختلف المذاهب، ولم يقتصر تأثيره على المذهب الحنفي وحده.

كما كان له دور كبير في تقعيد الفقه، أي في تحويل الفقه من سرد مسائلي إلى فقه منظّم قائم على القواعد والضوابط العامة، مما مهّد لاحقًا لتطور الدراسات الفقهية الحديثة، ولا سيما في مجالات القانون والفقه المقارن.

وفي عصر الدولة العثمانية، كانت كتبه تُعتمد في المحاكم الشرعية، وأثرت كثيرًا في بناء الفكر القانوني في الدول الإسلامية، حتى أن العديد من المجامع الفقهية الحديثة لا تزال ترجع إلى آرائه وقواعده الفقهية في صياغة الأحكام المعاصرة.

مكانته بين العلماء

نال ابن نُجيم مكانة رفيعة بين علماء عصره، وشهد له كثير منهم بالتبحر والتفوق في الفقه، وكان يُعدّ من أعمدة الفقه في مصر والعالم الإسلامي. ومن العلماء الذين أثنوا عليه: الإمام السخاوي، والإمام الرملي، وغيرهم. وقد أجاز له كثير من الشيوخ، وترك من بعده تلاميذ صاروا بدورهم من كبار العلماء.

ويُروى عنه أنه كان شديد الورع، زاهدًا في الدنيا، عفيف النفس، متواضعًا رغم علمه ومكانته، وكان يحرص على تعليم طلبته بنفسه، ويُدقّق في مسائل العلم كأنه ينقّب عن الذهب.

مقارنة بينه وبين الكمال بن الهمام

كثيراً ما يُقارن بين ابن نُجيم والكمال بن الهمام، وكلاهما من كبار علماء الحنفية. وقد تميّز الكمال بن الهمام في علم الحديث والفقه المقارن، بينما برع ابن نُجيم في علم القواعد الفقهية وشرح متون المذهب.

كلاهما اتسم بمنهج التحقيق، لكن يُلاحظ أن ابن نُجيم ركّز أكثر على الجانب التركيبي في الفقه، من خلال القواعد، بينما ركّز ابن الهمام على الجانب التحليلي والنقدي، ولا سيما في التحقق من النصوص والروايات. وقد استفاد ابن نُجيم من كتب ابن الهمام، وتعلّم على بعض تلامذته.

الجدول التالي يوضح مقارنة موجزة بين أبرز مؤلفاتهما:

وفاته وإرثه العلمي

توفي ابن نُجيم سنة 970 هـ تقريباً، بعد حياة مليئة بالعلم والبحث والتعليم والتأليف. وخلف وراءه إرثاً علمياً ضخماً، لا يزال يُدَرّس ويُطبع ويُستفاد منه حتى اليوم.

وقد تُرجم كثير من كتبه إلى لغات أخرى، وأعيد نشرها بعناية في العصر الحديث، مما يدل على استمرارية تأثيره، وعمق عطائه العلمي، وخلود فكره في أروقة المدارس الفقهية والجامعات الإسلامية حول العالم.

المراجع:

• ابن نُجيم، الأشباه والنظائر في القواعد الفقهية، تحقيق عبد الغني الدقر، دار الفكر، دمشق، الطبعة الثالثة.

• الكمال بن الهمام، فتح القدير شرح الهداية، دار الكتب العلمية، بيروت.