مخاطر الواي فاي وطرق الوقاية منها

شهد العالم خلال العقود الأخيرة ثورةً تقنية هائلة غيّرت أنماط الحياة بشكل جذري، وكان من أبرز مظاهر هذه الثورة انتشار تقنيات الاتصال اللاسلكي، وعلى رأسها تقنية “الواي فاي” (Wi-Fi). لقد أصبحت الشبكات اللاسلكية جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية، حيث تُستخدم في المنازل، المؤسسات، الأماكن العامة، وحتى في المواصلات. ورغم الفوائد الكبيرة التي تقدمها هذه التقنية في تسهيل الوصول إلى الإنترنت، فإنها تثير في الوقت نفسه الكثير من المخاوف الصحية والأمنية، التي تستدعي فهماً عميقاً للمخاطر المحتملة واتباع سلوكيات وقائية مدروسة.

أولاً: التعريف بتقنية الواي فاي وطبيعة إشعاعاتها

تقنية الواي فاي هي وسيلة لنقل البيانات لاسلكياً عبر الموجات الكهرومغناطيسية، وتعمل ضمن نطاق ترددات الراديو، عادةً بين 2.4 غيغاهرتز و5 غيغاهرتز. تنتج هذه الموجات من أجهزة التوجيه اللاسلكية (Routers) وتنتقل إلى الحواسيب والهواتف الذكية وغيرها من الأجهزة. الموجات المستخدمة في شبكات الواي فاي تُصنف علمياً ضمن الإشعاعات غير المؤيّنة (Non-ionizing radiation)، أي أنها لا تمتلك طاقة كافية لتغيير التركيب الجزيئي للخلايا أو لإحداث أضرار مباشرة بالحمض النووي، خلافاً للإشعاعات المؤيّنة مثل الأشعة السينية أو أشعة غاما.

ورغم تصنيفها هذا، إلا أن التعرض المزمن والطويل الأمد لهذه الإشعاعات، خاصة في أماكن مغلقة وبالقرب من أجهزة البث، يمكن أن يؤدي إلى تأثيرات صحية وسلوكية معقدة لا تزال تحت الدراسة والجدل العلمي.

ثانياً: المخاطر الصحية المرتبطة بالواي فاي

1. التأثيرات العصبية والدماغية

تشير دراسات متزايدة إلى وجود صلة محتملة بين التعرض المزمن لإشعاعات الواي فاي وظهور اضطرابات عصبية، منها:

• الصداع المتكرر: أفاد العديد من المستخدمين، خاصة الأطفال والمراهقين، بزيادة حالات الصداع عند التواجد لفترات طويلة قرب الأجهزة اللاسلكية.

• صعوبات في التركيز: هناك مؤشرات على أن الموجات اللاسلكية قد تؤثر على النشاط الكهربائي في الدماغ، مما يؤدي إلى ضعف في التركيز والانتباه.

• اضطرابات النوم: ارتبط التعرض الليلي لإشعاعات الواي فاي بانخفاض إنتاج الميلاتونين، وهو الهرمون المنظم لدورة النوم، مما يؤدي إلى أرق مزمن أو نوم غير عميق.

2. التأثيرات القلبية والوعائية

أظهرت دراسات أن الإشعاعات اللاسلكية قد تُحدث تقلبات في معدل نبض القلب، وارتفاعًا مؤقتًا في ضغط الدم، خصوصًا لدى الأشخاص ذوي الحساسية الكهرومغناطيسية. وعلى الرغم من أن الأدلة لا تزال قيد البحث، فإن التعرض المستمر لهذه الموجات قد يشكل عبئاً إضافياً على القلب والجهاز الدوري، خاصة لدى الفئات المعرضة للخطر مثل المسنين ومرضى القلب.

3. التأثيرات على الخصوبة والصحة الإنجابية

تشير عدة دراسات إلى أن إشعاعات الواي فاي قد تُحدث تغييرات في جودة الحيوانات المنوية لدى الذكور، بما في ذلك:

• انخفاض في حركة الحيوانات المنوية.

• زيادة في معدل تشوهاتها.

• تلف الحمض النووي داخل الخلايا المنوية.

وفي حالات أخرى، وُجد أن التعرض لإشعاعات الواي فاي في فترة الحمل قد يؤثر سلباً على تطور الجنين، لا سيما في الثلث الأول، حيث تكون الخلايا أكثر حساسية للاضطرابات.

4. التأثيرات على الخلايا ونمو الأورام

على الرغم من أن إشعاعات الواي فاي لا تُصنّف على أنها مسرطنة حتى الآن من قبل منظمة الصحة العالمية، إلا أن بعض الدراسات المختبرية على الحيوانات أشارت إلى احتمال وجود علاقة بين التعرض طويل الأمد لهذه الموجات وحدوث تغييرات خلوية قد تُسهم في تطور الأورام، لا سيما أورام الدماغ والغدد الصماء. ولذلك، لا يمكن تجاهل هذا الجانب، خاصة في غياب أبحاث طويلة المدى على البشر.

ثالثاً: المخاطر النفسية والاجتماعية المرتبطة بالواي فاي

1. الإدمان الرقمي والتعلق المفرط بالأجهزة

انتشار شبكات الواي فاي في كل مكان جعل الوصول إلى الإنترنت سهلاً وسريعاً، ما أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في معدلات الإدمان الرقمي، خصوصاً بين الأطفال والمراهقين. ويترتب على ذلك مشاكل عديدة منها:

• ضعف الروابط الاجتماعية الواقعية.

• الميل إلى العزلة والاكتئاب.

• ضعف الأداء الدراسي والوظيفي.

2. الإجهاد المعلوماتي والقلق

الارتباط الدائم بالإنترنت يجعل الإنسان عرضة لتدفق مستمر من المعلومات والإشعارات، ما يُسبب حالة من القلق المزمن والضغط الذهني، ويؤثر على الصحة النفسية والإنتاجية.

رابعاً: المخاطر الأمنية لشبكات الواي فاي

لا يقتصر خطر الواي فاي على الجانب الصحي فقط، بل يمتد ليشمل جوانب أمنية خطيرة تؤثر على الخصوصية والبيانات الشخصية. ومن أبرز هذه المخاطر:

1. اختراق الشبكات وسرقة البيانات

• يمكن للقراصنة استغلال نقاط الضعف في تشفير شبكات الواي فاي لاختراقها وسرقة المعلومات الشخصية، مثل كلمات المرور والبيانات المصرفية.

• الشبكات العامة المفتوحة (مثل تلك في المقاهي والفنادق) أكثر عرضة للاستغلال، وتُعد بيئة خصبة لعمليات التجسس الإلكتروني.

2. الهجمات عبر الأجهزة المرتبطة

• يمكن للمهاجمين الإلكترونيين استخدام أحد الأجهزة المرتبطة بالشبكة كمنفذ للوصول إلى باقي الأجهزة، مما يعرض الشبكة بأكملها للاختراق.

خامساً: الفئات الأكثر عرضة لمخاطر الواي فاي

• الأطفال: أجسامهم الصغيرة ودماغهم النامي يجعلانهم أكثر حساسية للإشعاعات الكهرومغناطيسية.

• النساء الحوامل: الإشعاعات قد تؤثر على نمو الجنين، لا سيما في المراحل الأولى.

• الأشخاص ذوو الحساسية الكهرومغناطيسية: وهي حالة يتفاعل فيها الجسم بشكل سلبي مع الموجات اللاسلكية، مما يؤدي إلى أعراض مثل الصداع، التعب، والدوخة.

سادساً: طرق الوقاية وتقليل التعرض لمخاطر الواي فاي

1. الابتعاد عن أجهزة الراوتر

• يُفضّل وضع جهاز التوجيه في مكان بعيد نسبياً عن أماكن الجلوس والنوم.

• يجب تجنب وضع الراوتر في غرف النوم أو تحت الطاولات حيث يجلس الأفراد لفترات طويلة.

2. إطفاء الراوتر أثناء الليل

• يمكن تقليل التعرض للإشعاعات عن طريق إيقاف تشغيل جهاز الواي فاي خلال الليل، خاصة في البيوت والمنازل التي لا حاجة فيها للإنترنت أثناء النوم.

3. استخدام الكابلات بدلاً من الواي فاي

• يُفضّل استخدام كابلات الإيثرنت (Ethernet) لتوصيل الأجهزة المكتبية بالإنترنت، خاصة إذا كانت تُستخدم لساعات طويلة.

4. تقليل زمن التعرض

• استخدام الإنترنت اللاسلكي عند الحاجة فقط، وتجنّب الاتصال الدائم بالواي فاي دون ضرورة.

• تعطيل خاصية الاتصال التلقائي بالشبكات في الهواتف المحمولة لتفادي الاتصال المستمر بالشبكات المفتوحة.

5. استخدام واقيات إشعاعية

• توجد أجهزة حديثة تُثبّت على الراوترات أو الهواتف وتُقلّل من كمية الإشعاعات المنبعثة منها، غير أن فعاليتها ما زالت محل دراسة، ولا تُغني عن السلوكيات الوقائية الأخرى.

6. تقوية التشفير والحماية الأمنية للشبكة

• استخدام أنظمة تشفير حديثة مثل WPA3 بدلاً من الأنظمة القديمة.

• تغيير كلمة مرور الشبكة بانتظام واستخدام كلمات مرور قوية ومعقدة.

• تعطيل خاصية WPS التي قد تُستخدم لاختراق الشبكات بسهولة.

جدول: مقارنة بين مستويات الإشعاع لبعض الأجهزة المنزلية الشائعة

سابعاً: السياسات والتوصيات الدولية

رغم أن الهيئات العالمية لم تُصدر بعد تشريعات قاطعة تمنع استخدام تقنيات الواي فاي، فإنها توصي باتباع مبدأ “الاحتياط”، وهو مبدأ علمي يوصي بتقليل التعرض كلما أمكن ذلك، لا سيما لدى الفئات الحساسة. ومن أبرز هذه الهيئات:

• الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (IARC): صنفت إشعاعات الراديو على أنها “ممكنة التسرطن” للبشر ضمن الفئة 2B.

• منظمة الصحة العالمية (WHO): تؤكد على الحاجة إلى المزيد من الدراسات طويلة الأمد، وتوصي بتطبيق مبدأ تقليل التعرض، خاصة للأطفال.

ثامناً: الخلاصة العلمية والتطبيقية

إن استخدام تقنية الواي فاي أصبح أمراً حتمياً في الحياة المعاصرة، نظراً لما توفره من مرونة وسرعة في الاتصال. غير أن هذا الانتشار الواسع ترافق مع زيادة في مستوى التعرض للموجات الكهرومغناطيسية، وما يترتب عليه من آثار صحية محتملة تتراوح بين البسيطة والمعقدة، بعضها لا يزال قيد البحث.

تكمن أهمية الوقاية في الاعتدال، وتبني إجراءات تقلل من التعرض غير الضروري للإشعاعات، إلى جانب تعزيز الوعي المجتمعي حول السلوكيات السليمة في استخدام الأجهزة اللاسلكية. ويمكن القول إن اعتماد استراتيجيات علمية وتكنولوجية مسؤولة في التعامل مع هذه التقنية يُعد ضرورة حيوية لضمان التوازن بين فوائد الاتصال اللاسلكي ومخاطره المحتملة.

المراجع:

1. World Health Organization (WHO), Electromagnetic fields and public health: mobile phones, 2014.

2. BioInitiative Report, A Rationale for Biologically-based Public Exposure Standards for Electromagnetic Fields (ELF and RF), 2012.