إصلاح ذات البين وأثره

صحة حديث “إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين الحالقة” ودلالاته في إصلاح المجتمعات الإسلامية

في ظل ما يشهده العالم من صراعات وتناحر اجتماعي على مستويات شتى، تزداد الحاجة الملحة للعودة إلى تعاليم الإسلام السمحة التي تدعو إلى الألفة والوحدة وتنهى عن الشقاق والنزاع. ومن بين الأحاديث النبوية الشريفة التي ترسّخ هذه المبادئ، يبرز حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟” قالوا: بلى يا رسول الله، قال: “إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين”.

هذا الحديث ورد في كتب الحديث الصحيحة، وقد أخرجه الإمام الترمذي في سننه (كتاب الفتن، باب ما جاء في إصلاح ذات البين، رقم الحديث: 2509)، وصححه العلامة الألباني في “صحيح الجامع” (رقم 176). ويعتبر من الأحاديث القوية المتينة في إسنادها ومتنها ودلالاتها الاجتماعية والدينية.

التخريج وصحة الحديث

أُخرج الحديث عن أبي الدرداء رضي الله عنه، ويُروى بلفظ:

“قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة”.

وقد جاء الحديث بروايات متعددة، ولكنها متفقة في جوهرها، ويجمع المحدثون على أن الحديث صحيح، ومعتبر في كتب السنن والمسانيد، ومنهم:

• الإمام الترمذي (حسن صحيح)

• الإمام أحمد في “المسند”

• الحاكم في “المستدرك” (وقال صحيح الإسناد)

• الألباني في “صحيح الجامع”

وبالتالي فإن الحديث صحيح من حيث السند والمتن، ويُستدل به في أبواب الأخلاق والسلوك الاجتماعي في الإسلام.

المعنى اللغوي لمفردات الحديث

لفهم عمق الحديث، لا بد من الوقوف على معاني بعض مفرداته:

• إصلاح ذات البين: المقصود بها السعي لفض النزاعات والخلافات بين الناس، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات.

• فساد ذات البين: هو تفاقم الشحناء والبغضاء والتباغض والتناحر بين المسلمين.

• الحالقة: تعني المهلكة، والمقصود هنا ليس حلق الشعر، وإنما ما يحلق الدين ويزيل أثر الطاعة، أي يهدم الإيمان والأخلاق.

وهذا التعبير البلاغي “الحالقة” يُظهر فداحة أثر الخصام والتنازع في تفتيت النسيج الاجتماعي والديني، بل هو من أعظم الأسباب في انهيار المجتمعات.

أهمية إصلاح ذات البين في الإسلام

جاءت النصوص الشرعية تؤكد باستمرار على ضرورة الإصلاح بين الناس. فالإصلاح ليس مجرد سلوك محمود، بل هو واجب ديني وركيزة من ركائز بناء المجتمع الإسلامي. من أهم دلالات الحديث:

• تقديم الإصلاح على العبادات الفردية: فقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم إصلاح ذات البين أفضل من نوافل العبادات، مثل الصلاة والصيام والصدقة. وهذا يشير إلى أن أثره أعمق في المجتمع.

• تحقيق السلم الاجتماعي: إذ أن الإسلام لا ينظر إلى الإيمان بمنظور فردي فحسب، بل يهتم بإصلاح البنية الاجتماعية وتماسكها.

• درء المفاسد أولى من جلب المصالح: فالخصومات تؤدي إلى التباغض، وقد تفضي إلى القطيعة وسفك الدماء، بل وإلى انهيار المجتمعات.

المظاهر المعاصرة لفساد ذات البين

في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، تتخذ فساد ذات البين أشكالًا متعددة، منها:

كل هذه المظاهر تمثل تجليات لـ”فساد ذات البين”، وهي أخطر على المجتمعات من الهزائم العسكرية أو الكوارث الطبيعية، لأنها تنخر في النسيج الأخلاقي والروحي للأمة.

أسباب انتشار فساد ذات البين

من أسباب هذا الفساد ما يلي:

1. ضعف الإيمان: فالمؤمن الحق يعلم أن العفو والصلح من شيم المتقين.

2. الجهل بأحكام الشريعة: إذ يغيب عن البعض ما ورد من نصوص تحث على العفو والإصلاح.

3. الهوى والعصبية: حيث تقدم المصلحة الشخصية أو الطائفية على المصلحة العامة.

4. الإعلام السلبي: الذي يغذي الصراعات ويؤجج الخلافات بين فئات المجتمع.

5. انعدام القدوة: حينما يغيب العلماء والدعاة والمصلحون عن دورهم الحقيقي في الإصلاح.

الوسائل الشرعية لإصلاح ذات البين

الإسلام شرع عدة وسائل لتحقيق هذا الإصلاح، من بينها:

• السعي بين المتخاصمين بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة

• إباحة الكذب في الإصلاح بين الناس، كما ورد في الحديث الصحيح:

  “ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فيقول خيرًا أو ينمي خيرًا” (رواه البخاري ومسلم)

• الحث على العفو والتسامح، وهو من صفات عباد الرحمن.

• الوساطة العادلة القائمة على الحياد والمصلحة العامة.

• إقامة المجالس العرفية أو الشرعية لحل النزاعات

الآثار المترتبة على إصلاح ذات البين

إذا تم إصلاح ذات البين، انعكست النتائج الإيجابية على جميع نواحي الحياة الاجتماعية والدينية:

• التراحم والتعاضد بين أبناء المجتمع.

• البركة في الأرزاق والأعمار، كما ورد في الحديث: “من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه” (رواه البخاري).

• قوة الأمة، فالوحدة مصدر من مصادر القوة.

• انعدام الجريمة والعداوة، فحسن الظن والتسامح يحول دون الكثير من الجرائم الاجتماعية.

• رضا الله تعالى، فالله يحب المتقين والمحسنين والمصلحين.

الموقف الفقهي من الإصلاح بين الناس

اتفق الفقهاء على أن الإصلاح بين الناس من أفضل الأعمال، ويُعتبر من فروض الكفاية، أي إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وإن لم يقم به أحد أثم الجميع. ويأخذ الإصلاح أحيانًا حكم الوجوب العيني، خاصة إذا ترتب عليه حق مهدور أو دم مسفوك.

وقد قال الإمام النووي رحمه الله:

“الإصلاح بين الناس من أعظم القربات، فإن النفع المتعدي أفضل من القاصر”.

تطبيقات نبوية على إصلاح ذات البين

من أعظم الأمثلة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم:

• صلح الحديبية: حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم الصلح مع قريش رغم شروطه القاسية ظاهريًا، إلا أنه كان بوابة لفتح مكة.

• فضّ النزاعات بين القبائل: مثل تدخله بين الأوس والخزرج بعد أن كادت الفتنة تعود.

• وساطته بين الصحابة: مثل موقفه من النزاع بين أبي ذر وبلال رضي الله عنهما.

كلها تؤكد أهمية القيادة الصالحة في احتواء الخلافات ووأد الفتنة.

خاتمة

حديث “إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين الحالقة” هو من النصوص الجامعة التي لا تقتصر على بيان فضيلة خلق معين، بل هو أساس في بناء المجتمع الإسلامي المتماسك. وقد تضمن دعوة صريحة لتقديم المصلحة العامة على النزعات الفردية، ولتعزيز ثقافة التسامح والعفو، ولبناء جسور المودة بدلاً من أسوار العداوة. في ظل ما تمر به الأمة الإسلامية من تحديات، يبقى إصلاح ذات البين واجبًا شرعيًا وضرورة إنسانية، لا ينهض بها سوى أهل العلم والحكمة والقدوة، ممن يحملون همّ أمة تسعى إلى أن تستعيد قوتها الأخلاقية والروحية من خلال تماسكها ووحدتها.

المراجع:

1. سنن الترمذي، الحديث رقم 2509، باب ما جاء في إصلاح ذات البين.

2. صحيح الجامع للألباني، الحديث رقم 176.