عبد الحميد بن باديس: رائد النهضة

عبد الحميد بن باديس: رائد النهضة الجزائرية

يُعدّ الشيخ عبد الحميد بن باديس (1889–1940م) واحدًا من أعظم أعلام النهضة الإسلامية والعربية في الجزائر خلال النصف الأول من القرن العشرين، وأبرز رموز الإصلاح الديني والفكري الذين تصدّوا لمحاولات طمس الهوية الإسلامية والعربية للشعب الجزائري في ظل الاستعمار الفرنسي. كان بن باديس عالماً موسوعيًا، ومناضلاً وطنيًا، وقائدًا تربويًا، وناشطًا صحفيًا، ومؤسسًا لحركة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي لعبت دورًا محوريًا في بناء الوعي الوطني الجزائري، والتمهيد للثورة الجزائرية الكبرى عام 1954م.

النشأة والبدايات العلمية

وُلِد عبد الحميد بن باديس في مدينة قسنطينة بالشرق الجزائري، في أسرة عريقة تعود أصولها إلى الأدارسة، وكانت مشهورة بالتدين والثقافة والجاه. تلقى تعليمه الأولي في كُتّاب تقليدي حيث حفظ القرآن الكريم على يد الشيخ محمد المداسي في سن مبكرة، ثم واصل دراسته في الجامع الكبير بقسنطينة، حيث تتلمذ على يد الشيخ حمدان لونيسي الذي كان له تأثير بالغ في شخصيته، وغرس فيه روح الزهد والتقوى، والاعتزاز بالهوية الإسلامية.

الرحلة إلى الزيتونة

عام 1908م، قرر بن باديس السفر إلى تونس للالتحاق بجامع الزيتونة، أحد أهم مراكز التعليم الإسلامي في العالم الإسلامي آنذاك. في الزيتونة، تلقّى علومًا متنوعة تشمل التفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والبلاغة، والمنطق، والتاريخ، وتتلمذ على يد أعلام من أبرزهم الشيخ الطاهر بن عاشور. مكث في الزيتونة نحو أربع سنوات، تخرّج بعدها سنة 1912م بشهادة “التطويع” التي كانت تعادل الدراسات العليا في ذلك الوقت، متميّزًا في دراسته ومشهودًا له بالذكاء والنجابة.

الرحلة إلى المشرق

بعد تخرّجه، زار بن باديس الحجاز لأداء فريضة الحج، وهناك التقى كبار علماء الشام والحجاز والمغرب، منهم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، واطّلع على الحركات الإصلاحية والدعوية المنتشرة في المشرق الإسلامي آنذاك، خاصة تأثيرات دعوة محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، والإمام محمد بن عبد الوهاب. عاد إلى الجزائر متسلّحًا بعزيمة قوية لنشر العلم والدعوة إلى إصلاح المجتمع، ومقاومة الاحتلال الفرنسي فكريًا وثقافيًا.

مشروع الإصلاح والتعليم

بدأ بن باديس عمله الإصلاحي بتأسيس مدرسة للتعليم العربي الإسلامي في مدينة قسنطينة سنة 1913م، كانت النواة الأولى لمشروعه النهضوي، حيث اعتمد فيها على منهج حديث، يجمع بين تعليم اللغة العربية، والتربية الإسلامية، والتاريخ، والرياضيات، والعلوم الطبيعية. لم يكن التعليم في هذه المدارس مقتصرًا على الذكور، بل شمل الإناث أيضًا، وكان بن باديس من أوائل من نادى بتعليم المرأة في الجزائر.

كان يؤمن أن الإصلاح الحقيقي لا يبدأ إلا من تربية النشء، ولذلك قال عبارته الشهيرة: “لو أنني كنت أملك عشرة آلاف فرنك، لوضعتها في بناء المدارس، ولو أني ملكت عشرة آلاف معلم، لأرسلتهم إلى أعماق الصحراء”. وقد ساعده في مشروعه عدد من العلماء والطلبة المخلصين، الذين تحولوا فيما بعد إلى نواة للحركة الإصلاحية الجزائرية.

التعليم المسجدي والخطاب الديني

استغل بن باديس المساجد كمراكز تعليمية مفتوحة أمام الجمهور، وألقى فيها دروسًا يومية في التفسير والحديث والفقه، بأسلوب مبسط يناسب عامة الناس، مركّزًا على التربية الدينية، والهوية الإسلامية، وشرح معاني القرآن الكريم بعيدًا عن الغموض والجمود الفقهي. ومن أشهر أعماله في هذا المجال تفسيره لآيات القرآن الكريم تفسيرًا موضوعيًا ضمن ما عُرف لاحقًا بـ”مجالس التذكير”.

الصحافة والدعوة المكتوبة

إدراكًا منه لأهمية الإعلام في تشكيل الوعي، أصدر بن باديس صحيفة “المنتقد” عام 1925م، التي عُرفت بمواقفها النقدية ضد الاستعمار الفرنسي، ولكن السلطات الفرنسية أغلقتها سريعًا. لم يتراجع، بل عاد وأصدر جريدة “الشهاب” التي أصبحت منبرًا للإصلاح والدعوة إلى النهضة، واستمرت في الصدور حتى سنة 1939م.

كما كتب مقالات رصينة في عدد من الصحف والمجلات العربية في تونس والمشرق، تناول فيها قضايا الأمة، وانتقد بحدة سياسات الاستعمار، وبيّن أهمية التمسك بالإسلام واللغة العربية كسبيل للتحرر.

تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

في عام 1931م، توّج الشيخ عبد الحميد بن باديس جهوده التربوية والدعوية بتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي ضمّت نخبة من علماء الجزائر ومصلحيها، وكان هدفها المعلن: “نشر العلم والفضيلة ومحاربة الجهل والخرافة”، وكان شعارها: “الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا.”

حظيت الجمعية بدعم شعبي واسع، وأسست عشرات المدارس، والنوادي الثقافية، والمكتبات، والمساجد الحرة، وأصدرت مجلات ودوريات ذات توجه إصلاحي. وقد تبنت الجمعية موقفًا رافضًا للتقليد الأعمى والجمود الفقهي، وهاجمت الطرق الصوفية المنحرفة، وانتقدت استغلال الدين لتحقيق المصالح الشخصية، ودعت إلى العودة للكتاب والسنة بفهم سلفي معتدل.

الجدول التالي يبيّن بعض إسهامات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تحت قيادة ابن باديس:

مواقف بن باديس من الاستعمار والسياسة

رفض بن باديس التعامل مع الإدارة الاستعمارية الفرنسية، ورفض كل المشاريع التي كانت تهدف إلى “الاندماج” داخل الثقافة الفرنسية، وكان يعتبر أن “الاستعمار كافر، لا يرضى عن الإسلام، ولا يرضى عن العربية، ولا عن وطن حرّ”. وقد تميز خطابه بمزج بين الدين والوطنية، وكان يرى أن مقاومة الاستعمار تبدأ بالعلم، وتربية الضمير، وتنمية الحس الوطني.

رغم أنه لم يتورط في السياسة الحزبية، إلا أنه كان له موقف واضح من السياسة العامة، وحرص على أن تكون جمعية العلماء مؤسسة دينية ثقافية تربوية بعيدة عن الصراعات الحزبية، مع الاحتفاظ بموقف وطني ثابت تجاه قضايا الشعب.

وفاته وإرثه الفكري

توفي الشيخ عبد الحميد بن باديس في 16 أبريل 1940م عن عمر ناهز 51 سنة، تاركًا وراءه مدرسة إصلاحية عريقة، وآلاف التلاميذ الذين واصلوا رسالته بعد وفاته. وقد أجمعت جميع التيارات الوطنية الجزائرية بعد الاستقلال على الاعتراف بإسهاماته في بناء الوعي الوطني، ومهدت أفكاره الطريق للثورة التحريرية.

يُحتفل اليوم بذكرى وفاته في الجزائر كيوم للعلم، وتُعدّ مقولته الشهيرة: “شعب الجزائر مسلم، وإلى العروبة ينتسب” نشيدًا وطنيًا رمزيًا في أوساط الحركة الثقافية الوطنية.

الإرث التربوي والفكري

يتميّز الإرث الفكري لابن باديس بالتركيز على جوانب ثلاثة أساسية:

1. إصلاح التعليم: بالدعوة إلى تعليم ديني عصري قائم على الفهم لا الحفظ، وإدخال العلوم الحديثة، ومحاربة الأمية.

2. التجديد الديني: بإعادة الاعتبار إلى القرآن الكريم كمصدر رئيس للفكر، وتفسيره تفسيرًا واقعيًا يلامس حياة الناس، ونقد البدع والخرافات التي علقت بالإسلام الشعبي.

3. الهوية واللغة: بالدفاع المستميت عن اللغة العربية والثقافة الإسلامية، ومقاومة فرنسة التعليم والمجتمع، وتجذير الانتماء الحضاري العربي الإسلامي.

المصادر والمراجع

• عبد الرحمن شيبان، عبد الحميد بن باديس: رائد النهضة الجزائرية، دار البعث، الجزائر، 1981.

• مالك بن نبي، شاهد على القرن، دار الفكر، دمشق، 2002.