إدارة الوقت في حياة الشباب

الوقت المهدور والوقت المشحون في حياة الشاب

في المجتمعات الحديثة، يكتسب مفهوم الوقت أهمية قصوى، لا سيما في مرحلة الشباب، حيث تتشكل ملامح المستقبل وتتبلور معالم الشخصية والطموحات. غير أن التباين بين الوقت المهدور والوقت المشحون لدى الشباب يمثل ظاهرة جديرة بالتأمل والدراسة، لما تحمله من انعكاسات مباشرة على جودة الحياة الفردية والجماعية، وعلى الإنتاجية والنضج النفسي والاجتماعي.

تُعد فترة الشباب من أكثر المراحل خصوبة في حياة الإنسان من حيث القدرات العقلية والجسدية والانفعالية، وهي المرحلة التي يُفترض أن يُستثمر فيها الوقت بأعلى درجات الكفاءة، غير أن كثيرًا من الشباب يقعون ضحية سوء إدارة الوقت، أو ينجرفون خلف أنماط استهلاكية وترفيهية تلتهم الساعات دون مردود يُذكر. ومن هنا تنشأ الفجوة بين “الوقت المهدور” و”الوقت المشحون”، بما تحمله كل فئة من دلالات قيمية وسلوكية تؤثر بعمق في المسار الحياتي للفرد.

أولاً: تحديد المفاهيم – ما هو الوقت المهدور؟ وما هو الوقت المشحون؟

الوقت المهدور هو الزمن الذي يُقضى في أنشطة لا تضيف قيمة حقيقية للفرد، سواء من الناحية المعرفية أو المهارية أو النفسية. وغالبًا ما يتسم هذا النوع من الوقت بالركود، والانفصال عن الأهداف، والانغماس في التسويف والتسلية الفارغة. على النقيض من ذلك، فإن الوقت المشحون هو الزمن الذي يُستثمر في تجارب تضيف للفرد نموًا، سواء كان ذلك عبر التعلم، أو العمل المنتج، أو العلاقات الاجتماعية البنّاءة، أو حتى التأمل الذاتي وتطوير القيم.

ثانيًا: مظاهر الوقت المهدور في حياة الشباب

1. الإفراط في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي
   
   يمضي كثير من الشباب ساعات طويلة يوميًا على المنصات الرقمية، يتنقلون بين التطبيقات دون هدف محدد، مما ينتج عنه تشتيت ذهني وانخفاض في معدلات التركيز والإنتاجية. وقد أظهرت العديد من الدراسات النفسية أن الاستخدام المفرط لهذه المنصات يرتبط بزيادة مستويات القلق والاكتئاب.

2. الإدمان على الترفيه الرقمي
   
   يشمل ذلك الانغماس في ألعاب الفيديو، أو مشاهدة المحتوى الترفيهي بشكل مفرط، دون توازن مع أنشطة حياتية أخرى. هذا النوع من الاستهلاك الزمني قد يؤدي إلى تآكل الحافز الداخلي، خاصة إذا حل محل القراءة أو التواصل الإنساني أو بناء المهارات.

3. اللامبالاة بالأهداف المستقبلية
   
   عندما يفتقد الشاب رؤية واضحة لمساره المهني أو الشخصي، يصبح الوقت عنده مرنًا بشكل سلبي، يسير بلا ضابط ولا غاية. فيتحول النهار إلى سلسلة من النشاطات العشوائية التي لا تنتج عنها إلا مشاعر بالفراغ والإحباط.

4. التأجيل والتسويف
   
   أحد أخطر آفات إدارة الوقت، حيث يميل الشاب إلى تأجيل المهام الحيوية، ليقضي وقته في نشاطات أقل أهمية، بحجة عدم الاستعداد أو الرغبة في الانتظار لما يُسمى بـ”اللحظة المثالية”.

ثالثًا: خصائص الوقت المشحون

1. التعلم المستمر
   
   يُعد التعلم، سواء عبر المؤسسات الرسمية أو بوسائل ذاتية، من أرقى أشكال استثمار الوقت. فهو يفتح آفاقًا جديدة ويعزز من قدرة الشاب على التفاعل مع المتغيرات المحيطة. الوقت الذي يُقضى في اكتساب لغة جديدة، أو تطوير مهارة فنية، أو فهم تخصص أكاديمي، هو وقت مشحون بطاقة معرفية يمكن تحويلها إلى قوة إنتاجية.

2. بناء المشاريع الشخصية أو المهنية
   
   سواء أكانت مشاريع ريادية، أو أنشطة تطوعية، أو حتى هوايات ذات أهداف، فإن الانخراط في أعمال ملموسة يُثري الوعي الذاتي ويعزز من روح المبادرة والمسؤولية.

3. الوقت النوعي في العلاقات الإنسانية
   
   المشاركة في جلسات حوارية مثمرة، أو العمل الجماعي، أو التفاعل مع شخصيات ملهمة، كل ذلك يندرج ضمن الوقت المشحون بالعلاقات ذات القيمة، التي تسهم في البناء النفسي والاجتماعي للفرد.

4. التأمل والتخطيط والكتابة
   
   التوقف المنظم لمراجعة الذات، ووضع خطط واقعية للمستقبل، وتدوين الأفكار والتجارب، هو نوع راقٍ من شحن الوقت بطاقة داخلية تعزز من النضج وتوجه الفرد نحو مسارات واضحة.

رابعًا: الأسباب النفسية والاجتماعية وراء ضياع الوقت

1. غياب التربية الزمنية
   
   يفتقر العديد من الشباب إلى التربية التي تغرس فيهم احترام الوقت، نتيجة عدم وجود نماذج أسرية أو تعليمية تعزز هذه القيمة.

2. الفراغ العاطفي والوجداني
   
   عندما يعيش الشاب في عزلة عاطفية، قد يلجأ لتعويض ذلك بوسائل استهلاكية تملأ وقته، دون أن تمنحه الرضا الحقيقي.

3. ضعف البناء القيمي
   
   إذا لم تكن لدى الشاب منظومة قيم واضحة تحكم أولوياته، فإن تنظيم الوقت يصبح أمرًا عشوائيًا، يخضع للمزاج أكثر مما يخضع للعقل والتخطيط.

4. البيئة المحيطة غير الداعمة
   
   تحيط بالشاب أحيانًا بيئة مشجعة على التراخي والانغماس في اللهو، حيث يُنظر للجد والاجتهاد على أنهما “تطرف” أو “تعقيد”، مما يخلق نوعًا من الصراع الداخلي.

خامسًا: نتائج تراكم الوقت المهدور

• تراجع الإنتاجية الأكاديمية أو المهنية
  
  يتأخر الشاب عن الإنجاز المطلوب، ما ينعكس سلبًا على تحصيله الدراسي أو نجاحه المهني.

• تآكل تقدير الذات
  
  يشعر الشاب بالذنب أو بالفشل نتيجة عدم تحقيق أهدافه، ويبدأ الشك في قدراته وإمكاناته.

• الانجراف نحو عادات سلبية
  
  من بين نتائج هدر الوقت، التورط في سلوكيات خطرة مثل الإدمان أو الانحرافات الفكرية، نتيجة للفراغ الداخلي.

• الإحساس بالفراغ الوجودي
  
  تتراكم لدى الشاب مشاعر اللامعنى والضياع، وهو ما قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية على المدى البعيد.

سادسًا: استراتيجيات التحول من الوقت المهدور إلى الوقت المشحون

سابعًا: دور المؤسسات في تقنين الوقت لدى الشباب

لا يُمكن تحميل الشباب كامل المسؤولية عن ضياع أوقاتهم، بل من الضروري أن تلعب المؤسسات التربوية، والإعلامية، والاجتماعية دورًا في تأطير الوعي الزمني لدى هذه الفئة الحيوية. فالمناهج التعليمية يجب أن تُدمج بها مواد عن إدارة الوقت، كما ينبغي أن تُبث برامج إعلامية تروّج لنماذج شبابية ناجحة استثمرت وقتها بطريقة ذكية. بالإضافة إلى ذلك، فإن دعم المبادرات الشبابية، وتوفير منصات تدريب وتأهيل، هو أمر محوري لتحفيز الشباب على شحن وقتهم بما يعود عليهم وعلى مجتمعاتهم بالنفع.

ثامنًا: التأثير المتبادل بين الوقت المهدور والمجتمع

الشباب الذين يهدرون أوقاتهم لا يخسرون مستقبلهم فقط، بل يسهمون بشكل غير مباشر في تكريس التخلف المجتمعي، لأنهم يُفوتون فرص المشاركة في البناء والإبداع. أما من يشحنون وقتهم بطاقة منتجة، فإنهم يشكلون النواة الصلبة لأي نهضة. فالمجتمعات التي تُحسن إدارة طاقات شبابها، وتوجهها نحو الأهداف الكبرى، هي تلك التي تصنع مكانتها في التاريخ وفي موازين القوى العالمية.

خاتمة

يمثل الوقت في حياة الشاب مادة خامًا لصناعة الذات والمصير. وبينما يؤدي هدره إلى الانطفاء التدريجي، فإن شحنه بالمعرفة، والعمل، والقيم، والإنجاز، يضيء مسارًا متصاعدًا نحو النضج، والريادة، والإلهام. إن الفارق بين شاب يعيش وقته بلا وعي، وآخر ينسج من دقائقه مستقبلًا زاهرًا، ليس أكثر من وعي لحظة، وقرار صارم بتغيير الوجهة. الزمن ليس مجرد وعاء فارغ، بل هو ميدان صراع بين الفاعلية والفراغ، وبين الغفلة والانتباه، وبين الضياع والتحقق.

المراجع

1. Covey, S. R. (1989). The 7 Habits of Highly Effective People.

2. Newport, C. (2016). Deep Work: Rules for Focused Success in a Distracted World.