إذا سأل طفلك أين الله فبماذا ستجيب؟ توجيهات تربوية وعقائدية في التعامل مع تساؤلات الأطفال عن الذات الإلهية

من اللحظات التي قد تكون فارقة في حياة الوالدين هي تلك التي يطرح فيها الطفل أسئلة وجودية تمس العقيدة والغيبيات، ومنها سؤال: “أين الله؟”. هذا النوع من الأسئلة لا يعكس فقط فضول الطفل العقلي والفطري، بل يشير إلى بداية تشكّل الوعي الديني لديه وتفاعله مع المفاهيم المجردة التي تتجاوز حدود الإدراك الحسي لديه. هذا المقال يتناول معالجة هذا السؤال بأسلوب علمي وتربوي رصين، مدعوماً بالمفاهيم العقدية الصحيحة وموائماً مع المرحلة العمرية للطفل، بما يضمن ترسيخ العقيدة السليمة دون تعقيد أو تشتت.

الطفل والسؤال العقدي: ملاحظة أولية

قبل محاولة تقديم إجابة على هذا السؤال، لا بد من فهم الطبيعة النفسية والعقلية للطفل. فالأطفال، بطبعهم الفطري، يربطون كل ما يفهمونه بما هو محسوس ومرئي. وعندما يسمعون عن “الله”، فإنهم يسعون لتصور هذا الكيان وفق ما اعتادوا عليه من رؤية الأشخاص والأماكن والأشياء. ومن هنا ينبع السؤال “أين الله؟”؛ إذ يريد الطفل أن يضع الله في إطار مكاني معين لأنه لا يزال يفكر بطريقة مادية حسية.

السؤال لا يدل على شك أو إلحاد، بل هو نتيجة منطقية لطريقة تفكير الأطفال. ومن الخطأ الفادح إهماله أو زجر الطفل عند طرحه، لأن ذلك قد يؤدي إلى عزوفه عن السؤال مستقبلاً، مما يخلق في نفسه غموضاً دائماً حول أمور العقيدة قد لا يجد لها تفسيراً في المستقبل إلا من مصادر خاطئة.

منهج النبي ﷺ في تعليم العقيدة

ورد في الحديث الشريف الذي رواه مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الجارية: «أين الله؟» فقالت: “في السماء”، فقال: «من أنا؟» قالت: “أنت رسول الله”، فقال: «أعتقها فإنها مؤمنة». هذا الحديث يُعدّ أصلًا في مشروعية تعليم الطفل أن الله في السماء، أي أنه سبحانه فوق كل شيء، عالٍ على خلقه، مستوٍ على عرشه، لا يحويه مكان ولا يحده زمان، فهو خالق الزمان والمكان.

إلا أن فهم هذا المعنى يتطلب توضيحاً عند الأطفال، لأنهم قد يربطون “السماء” بالفضاء المادي القريب، أو بالغيوم التي يرونها، بينما العقيدة الإسلامية تضع السماء في موضعها الكوني والمجرد كجهة علوية عظيمة تعكس علو الله على خلقه.

كيف نفهم السؤال “أين الله؟”؟

ينطوي هذا السؤال على مفاهيم فلسفية وعقدية عميقة، لكن لا يجب الدخول في تعقيداتها عند مخاطبة الطفل. يجب أولاً التدرج في الإجابة بحسب عمر الطفل وقدرته على الفهم. وهنا يمكن تصنيف الأعمار إلى ثلاث مراحل رئيسية:

المرحلة الأولى: من 3 إلى 6 سنوات

في هذه المرحلة، يتمتع الطفل بخيال خصب وإدراك حسي محدود. ويمكن الإجابة عليه إجابة مبسطة كالتالي:

“الله في السماء، ينظر إلينا، يسمعنا دائماً، ويحبنا، وهو أقرب إلينا من أي أحد آخر”.

هنا يتم الجمع بين مفهوم العلو الإلهي ومعاني القرب واللطف والرعاية، وهي مفاهيم مطمئنة وتتناسب مع حاجات الطفل النفسية في هذا السن.

المرحلة الثانية: من 7 إلى 10 سنوات

الطفل في هذه المرحلة يبدأ في تطوير تفكيره المنطقي. قد يعيد السؤال ويطلب تفسيرًا أدق، ويمكن أن تكون الإجابة كالتالي:

“الله سبحانه وتعالى فوق كل شيء، وهو لا يشبهنا، لا يحتاج إلى مكان، لكنه يُدير الكون كله من فوق. نحن لا نراه، لكنه يرانا ويسمعنا ويعرف كل شيء عنا”.

في هذا السياق، يمكن تعزيز الفهم بمواقف حياتية: كأن نقول له إن الكهرباء لا تُرى، لكن آثارها موجودة، كذلك الله لا يُرى، لكنه خالق كل شيء.

المرحلة الثالثة: من 11 سنة فما فوق

يبدأ الطفل في مرحلة ما قبل البلوغ أو البلوغ، ويكون مستعداً لفهم مفاهيم أكثر تجريدية. في هذه المرحلة، يمكن تعميق الإجابة باستخدام العبارات التالية:

“الله عز وجل فوق العرش، مستوٍ عليه كما قال في القرآن: (الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ)، لكنه ليس مثل مخلوقاته، لا تحده الجهات، ولا يحويه مكان، لأن المكان من خلقه سبحانه”.

كما يمكن دعم الطفل بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تؤكد صفات الله تعالى، مع التأكيد على أن عقول البشر لا تحيط بالله، قال تعالى: “لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ”.

دور البيئة في تشكيل الفهم العقدي لدى الطفل

البيئة المحيطة بالطفل تؤثر بشكل كبير في تشكيل تصوره عن الله. فالإجابة التي يسمعها من الوالدين أو المعلمين يجب أن تكون موحدة ومتسقة، خالية من التناقض. كما أن عرض القصص القرآنية المناسبة لعمر الطفل يمكن أن يعزز من فهمه لصفات الله وأفعاله. من أمثلة ذلك:

• قصة موسى عليه السلام عندما كلّمه الله.

• قصة إبراهيم عليه السلام في بحثه عن ربه.

• قصة أصحاب الكهف وثقة الله بحمايتهم.

هذه القصص تنقل المعاني الإيمانية الكبرى بلغة تتناسب مع الوجدان الطفولي، وتُسهم في تعزيز الثقة في الله والطمأنينة لعدله ورحمته.

خطأ الشرح المادي أو التجسيدي

من الأخطاء الشائعة التي يقع فيها بعض المربين أو المعلمين هو استخدام أسلوب التجسيم أو المقارنة عند الحديث عن الله. فيقول أحدهم: “الله جالس في السماء”، أو “الله كبير مثل الجبل”، أو “الله ينظر من خلف السحاب”، وهذه كلها أوصاف مرفوضة شرعاً وتربوياً، لأنها تخلق صورة ذهنية خاطئة في عقل الطفل عن الله تعالى، وتجعله يشبه الخالق بالمخلوقات، مما يؤدي إلى انحراف في العقيدة.

يجب توخي الحذر وعدم المبالغة في الوصف الحسي، بل الاقتصار على الألفاظ التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية، دون تأويل ولا تمثيل.

بين الإجابة العقدية والاستعداد النفسي

حين يُسأل الطفل “أين الله؟”، فإن الإجابة لا يجب أن تكون عقدية فقط، بل يجب أن تصاحبها لمسة وجدانية تعزز ارتباط الطفل بالله. فالمعلم أو الوالد الذي يجيب الطفل دون عاطفة، قد يجيب إجابة صحيحة عقائدياً لكنها لا تترك أثراً في نفسه. بينما الإجابة التي تقترن بالحب والتقدير لله، تزرع في نفس الطفل معاني الخوف والرجاء والمحبة والثقة في آن واحد.

من النافع أن يُربى الطفل على أن الله رحيم وغفور، يسمع دعاءه ويهتم لأمره، ويدعوه إلى الخير، ويحميه من الشرور. ويمكن هنا استخدام الجمل التالية:

• “الله معك حين تخاف، ينصرك ويحميك”.

• “الله يعلم ما في قلبك حتى لو لم تتكلم”.

• “الله يفرح إذا كنت طيباً وتصلي وتساعد الآخرين”.

الربط بين الإجابة وسلوك الطفل اليومي

ينبغي أن تقترن العقيدة بالسلوك، فمن غير المجدي تعليم الطفل أن الله موجود ويراه، ثم لا يُربط هذا المفهوم بسلوكه. على سبيل المثال:

• “حين تطيع والدَيك، فالله يراك وسيرضى عنك”.

• “حين تكذب، فالله يعلم الحقيقة”.

• “حين تساعد صديقك، فالله سيكافئك”.

هذا الدمج بين المفهوم العقدي والسلوك العملي يُرسخ عند الطفل مراقبة الله، ويُشكل ضميره الأخلاقي المبكر.

أثر معرفة الله في بناء شخصية الطفل

عندما يعرف الطفل الله معرفة صحيحة، فإن ذلك يؤثر تأثيراً بالغاً في تشكيل شخصيته واتزانه النفسي، إذ يجد في الله الملجأ والأمان في وقت الخوف، والحكم العدل في وقت الظلم، والمعين في وقت الضعف. وتترتب على هذه المعرفة فوائد كثيرة، منها:

خاتمة معرفية حول السؤال: أين الله؟

سؤال الطفل عن مكان الله هو علامة صحية على بداية وعيه بعالم الغيب وتفاعله مع محيطه العقدي، وينبغي أن يُستقبل بصدر رحب وفهم عميق لطبيعة المراحل الذهنية التي يمر بها الطفل. ويتطلب الأمر توازناً دقيقاً بين تقديم الحقيقة العقدية بشكل مبسط، وتجنب الوقوع في التجسيم أو الغموض، مع الاستعانة بالنصوص الشرعية والمواقف التربوية التي تُرسّخ المعنى في نفسه.

إن الإجابة على هذا السؤال لا تقتصر على الكلام فقط، بل تمتد إلى أسلوب التربية، واختيار القصص، وطريقة المعاملة اليومية، مما يجعل الطفل ينمو في بيئة إيمانية تُشبع حاجته للمعرفة وتبني إيمانه بطريقة صحية متزنة.

المراجع:

1. ابن تيمية، الفتاوى الكبرى.

2. محمد بن صالح العثيمين، شرح العقيدة الواسطية.