أول من نسخ القرآن الكريم

يُعدّ نسخ القرآن الكريم من أهم المراحل التي مرت بها الأمة الإسلامية في الحفاظ على كتاب الله تعالى وحفظه من الضياع أو التحريف، وكان لهذه المرحلة أهمية كبيرة في تاريخ الإسلام، لما ترتب عليها من تأسيس لجيل من العلماء والقراء الذين حفظوا الدين وساهموا في نشره عبر العصور. وقد شهدت هذه المرحلة جهودًا مضنية من قبل الصحابة الكرام الذين حرصوا على تدوين النصوص القرآنية، وتأمين حفظها بدقة متناهية، ليصل القرآن إلى أيدينا اليوم كما أوحي به إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

الخلفية التاريخية لحفظ القرآن ونسخه

قبل الحديث عن أول من نسخ القرآن الكريم، يجب فهم الظروف التي أُحيط بها جمع القرآن في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف كان يتم حفظه ونقله بين الصحابة. القرآن الكريم نزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم على مدى 23 عامًا، في أوقات وأماكن مختلفة، وكان حفظه متاحًا عبر عدة وسائل:

1. الحفظ عن ظهر قلب: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يحفظون القرآن عن ظهر قلب، ويمررونه شفهيًا من جيل إلى جيل.

2. التدوين على الرقاع: أُمر الصحابة بكتابة الآيات على الرقاع، والعظام، والألواح، وأي ما يتيسر من وسائل الكتابة آنذاك.

3. التثبيت والتدوين الرسمي: كان النبي يتلو القرآن على الصحابة، ويسمعهم، ويصحح لهم ما يخطئون فيه، فيعمل بذلك على تثبيت النصوص بدقة عالية.

ورغم ذلك، لم تكن هناك نسخة مكتوبة موحدة أو مصحف جامع خلال حياة النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانت الآيات متفرقة في دفاتر وألواح متعددة، مع اعتماد كبير على الحفظ.

الصحابي الذي أول من نسخ القرآن الكريم

إن أول من قام بجمع القرآن الكريم ونسخه في مصحف واحد بشكل منظم هو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهو من أوائل من أسلم من الصحابة، ومن أبرز حفاظ القرآن. له مكانة خاصة في حفظ القرآن وتلاوته وتعليمه.

عبد الله بن مسعود وجهوده في النسخ والتدوين

عبد الله بن مسعود كان من الذين حفظوا القرآن عن النبي مباشرة، وكان يُقرأ عليه القرآن في مكة قبل الهجرة. وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن أكثر الصحابة إلمامًا بالقرآن وعلومه. وقد قام بجمع آيات القرآن ونسخها في مصحف خاص به، حيث كتب كل ما حفظه من آيات وأجزاء، مصنفًا إياها على سوره.

ومن أهم مميزات مصحف ابن مسعود:

• تضمن المصحف ترتيبًا للسور مختلفًا عن ترتيب المصحف الحالي الذي جمعه أبو بكر وصحف في عهد الخليفة عثمان.

• كان يحتفظ بمصاحف خاصة، وكان يقرأ بها على المسلمين في الكوفة وغيرها من المدن.

• المصحف الذي كتبه ابن مسعود كان مرجعًا لبعض الصحابة والتابعين في تلاوة القرآن وحفظه.

يُقال إن ابن مسعود كان يرفض أن يقرأ على الناس من غير مصحفه الخاص، لثقته الكبيرة في أن مصحفه هو الأكثر دقة واحتواء على الآيات كاملة.

جمع القرآن في عهد الخليفة أبي بكر الصديق

رغم أن عبد الله بن مسعود هو أول من نسخ القرآن كاملاً، إلا أن الجهود الرسمية لجمع القرآن في مصحف موحد بدأت في عهد الخليفة الأول بعد النبي محمد، أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وذلك بعد معركة اليمامة التي قتل فيها عدد كبير من حفظة القرآن، ما أثار خوفًا من فقدان القرآن بسبب موت الحفاظ في الحروب.

أسباب جمع القرآن في عهد أبي بكر

• كثرة موت الحفاظ في حروب الردة.

• الحاجة إلى جمع النصوص مكتوبة للحفاظ عليها.

• توصية عمر بن الخطاب بأهمية جمع القرآن في مصحف واحد.

تكليف زيد بن ثابت بجمع القرآن

اختار أبو بكر رضي الله عنه الصحابي الجليل زيد بن ثابت رضي الله عنه، وهو من كتبة الوحي وحفاظ القرآن، ليقوم بمهمة جمع القرآن من رقاع مكتوبة ومن حفظة، وتثبيت النصوص في مصحف واحد.

وكان هذا الجمع الأول الرسمي من نوعه، حيث اجتمع زيد بن ثابت مع مجموعة من الصحابة للتحقق من الآيات، ومطابقتها مع ما في صدور الحفظة، ليتم التأكد من صحة النصوص ودقتها.

وهكذا أُنجز أول مصحف جامع للقرآن، تم الاحتفاظ به عند أبي بكر ثم عثمان.

المصحف العثماني وتوحيد نسخة القرآن

بعد وفاة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، ووجود اختلافات في قراءة القرآن بين بعض الصحابة والمناطق، قام الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه باتخاذ خطوة مهمة في تاريخ القرآن.

أسباب توحيد المصحف في عهد عثمان

• انتشار الفتوحات الإسلامية وظهور لهجات متعددة في القراءة.

• ظهور اختلافات في قراءة بعض الآيات بين المسلمين في البلاد الجديدة.

• ضرورة حفظ وحدة الأمة الإسلامية على النص القرآني.

مهمة نسخ المصحف العثماني

كلف عثمان بن عفان زيد بن ثابت ومجموعة من الصحابة المشهود لهم بحفظ القرآن وكتابته لجمع المصحف في نسخة موحدة، وقاموا بمراجعتها بدقة متناهية. ثم أمر بعمل نسخ متعددة من هذا المصحف وإرسالها إلى الأمصار الإسلامية الكبرى، مع أمر بحرق النسخ الأخرى التي قد تسبب خلافًا أو اختلافًا.

وكان هذا الإصدار هو النسخة المعتمدة التي بقيت حتى يومنا هذا، وهي نسخة تنسخها كل المصاحف المطبوعة.

مقارنة بين النسخ الأولى والنسخ العثمانية

يوضح الجدول التالي أهم الفروقات بين نسخ القرآن الأولى ونسخ المصحف العثماني:

أثر النسخ الأولى في حفظ القرآن

لقد أسهم نسخ القرآن الكريم في عهد الصحابة وخاصة نسخ عبد الله بن مسعود، وأعمال زيد بن ثابت في عهد أبي بكر وعثمان في تأسيس نظام متكامل لحفظ القرآن، ليس فقط شفهيًا وإنما أيضًا مكتوبًا، مما أتاح للأمة الإسلامية مرجعية ثابتة يستند إليها المسلمون في قراءتهم وفهمهم للقرآن.

كما كان لهذه النسخ أثر كبير في تدريس القرآن وتعليمه، ونقل العلوم القرآنية من جيل إلى جيل، وضمان حماية النص القرآني من الضياع أو التحريف في مواجهة تحديات الزمن.

الخلاصة

يرتبط نسخ القرآن الكريم بأسمى مراحل حفظ كتاب الله، وأولى الصحابة الذين نسخوا القرآن وأخذوا على عاتقهم مهمة تدوينه هم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، حيث كانت لديه نسخة شخصية موثقة ومنظمة، تميزت بدقتها واهتمامها بالتفاصيل.

تبع ذلك الجمع الرسمي في عهد الخليفة أبي بكر الصديق برئاسة زيد بن ثابت، الذي جمع المصحف الأول بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ثم جاء توحيد نسخة القرآن في عهد الخليفة عثمان بن عفان لتصبح النسخة المعتمدة التي توارثها المسلمون عبر العصور، وظلت محفوظة بكل أمانة حتى اليوم.

هذا المسار التاريخي يؤكد حرص الأمة الإسلامية على الحفاظ على كتاب الله بأمانة وإتقان، ويُظهر مدى التفاني والإخلاص في خدمة الدين وكتاب الله العظيم، وهو ما مكن القرآن الكريم من البقاء معجزًا محفوظًا عبر القرون بلا تحريف أو تبديل.

المصادر

1. ابن حجر العسقلاني، “فتح الباري شرح صحيح البخاري”، تحقيق: محمود شاكر، دار إحياء التراث العربي.

2. الطبري، “تاريخ الرسل والملوك”، دار الفكر، تحقيق حسين مؤنس.