أول من خط بالقلم

من أوّل من خطّ بالقلم

لقد شكّل القلم عبر العصور أداة مركزية في تشكيل الوعي الإنساني ونقل المعارف، وكان نقطة تحوّل فاصلة في مسيرة الحضارة، حيث لم يعد الإنسان معتمدًا فقط على المشافهة والذاكرة الحافظة، بل صار التدوين وسيلته لتوثيق المعارف وتناقلها عبر الأجيال. ويُعتبر التساؤل حول “أول من خط بالقلم” من المسائل التي تجمع بين الدين والتاريخ والفكر الإنساني، ويُعد من المواضيع التي تحمل بُعدًا ثقافيًا وروحيًا عميقًا، وقد ورد ذكره في بعض النصوص الشرعية واهتم به علماء السلف والمؤرخون لما له من ارتباط ببداية العلم الإنساني وتشكّل الحضارة.

أهمية القلم في البناء الحضاري

قبل الخوض في شخصية أول من خط بالقلم، لا بد من التوقف عند مكانة القلم في التراثين الديني والمعرفي. لقد ورد ذكر القلم في القرآن الكريم، إذ أقسم الله به في قوله تعالى: ﴿ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [سورة القلم: 1]، وهو قسم يبيّن عظيم قدر القلم وما يُسطر به من علوم ومعارف. كما ورد في الحديث الشريف أن أول ما خلق الله القلم، وأمره أن يكتب كل ما سيكون، كما في صحيح الترمذي وغيره من كتب الحديث.

هذا يدل على أن القلم كان أول تجلٍّ للقدرة الإلهية في وضع نظام معرفي وكتابي لحركة الكون، وأن التدوين يشكّل بنية أساسية في نظام القدَر الإلهي، كما يشكّل في الحضارات البشرية لاحقًا نظامًا لحفظ المعارف وتطوير العلوم.

القلم في الحضارات القديمة

لقد عرفت الحضارات القديمة أدوات الكتابة منذ آلاف السنين. فالحضارة السومرية استخدمت “الألواح الطينية” للكتابة المسمارية، حيث كان الكتبة يضغطون برؤوس الأقلام على الطين اللين الذي يُترك ليجف. أما المصريون القدماء فقد ابتكروا الكتابة الهيروغليفية، ودوّنوها على ورق البردي باستخدام أدوات خاصة تشبه القلم. في الصين القديمة، وُجدت أدوات للكتابة تعتمد على الريشة والحبر، وهي بدايات قريبة من مفهوم القلم التقليدي.

لكن على الرغم من هذا التنوع في أشكال وأدوات الكتابة، فإن المقصود بـ”أول من خط بالقلم” هو أول من اخترع الكتابة بشكلها الأساسي، أو من أوحيت له فكرة التعبير عن المعاني برموز تُكتب وتُقرأ، وهو موضوع أعمق من مجرد اختراع أداة، بل يتعلق بمصدر الإلهام الأول للكتابة ذاتها.

إدريس عليه السلام: أول من خط بالقلم

تجمع الكثير من المصادر الإسلامية على أن أول من خط بالقلم هو النبي إدريس عليه السلام. وقد ورد في بعض كتب التفسير والأحاديث والآثار أن إدريس كان أول من خط بالقلم، وكان عالِمًا حكيمًا تلقى من الله علومًا كثيرة.

قال ابن كثير في “البداية والنهاية”:

“وكان أول بني آدم أُعطي النبوة بعد آدم وشيث، وذكر أهل الكتب أنه أول من خط بالقلم”.

كما أورد السيوطي في “الدر المنثور” أن إدريس هو أول من خط بالقلم، وتعلّم النجوم والحساب. وقيل إنه أول من خاط الثياب ولبس المخيط، وكان الناس قبله يلبسون الجلود.

وقد جاء في تفسير الطبري نقلاً عن بعض السلف:

“إدريس عليه السلام هو أول من خطّ بالقلم، وهو أول من علم النجوم، وأول من خاط الثياب”.

وهذا يشير إلى أن إدريس لم يكن فقط نبيًا، بل كان له دور في تأسيس المعارف البشرية، وكان من الرسل الذين أسهموا في الانتقال بالإنسان من طور الفطرة العفوية إلى طور البناء العقلي والتدوين المنهجي.

إدريس عليه السلام في القرآن والسنّة

ذُكر إدريس عليه السلام في موضعين في القرآن الكريم:

1. ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 56]

2. ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ [مريم: 57]

وقد فسّر بعض المفسرين الآية الثانية بأنها تشير إلى مكانة علمية وروحية عظيمة نالها إدريس عليه السلام، وأن رفعه إلى السماء كان تكريمًا له.

وفي الحديث الشريف، ورد ذكر إدريس في قصة الإسراء والمعراج، حيث رآه النبي ﷺ في السماء الرابعة، كما في الصحيحين.

ما الذي يميز إدريس عليه السلام؟

1. التدوين والكتابة:
   
   هو أول من خطّ بالقلم، أي أنه أدخل البشرية في عصر التدوين، وهذا يُعدّ من أعظم التحولات المعرفية.

2. العلم والحساب:
   
   عُرف بإتقانه علوم الحساب والنجوم، ما يدل على مستوى متقدّم من التفكير العلمي في زمنه.

3. اللباس والصناعة:
   
   يُروى أنه أول من خاط الثياب ولبس المخيط، وهذا يشير إلى تطوّر في نمط الحياة والصناعة.

4. الرفعة الروحية والعلمية:
   
   اختصه الله بالنبوة ورفعه إلى مكانٍ عليّ، ما يدل على مكانته الخاصة بين الأنبياء.

الفرق بين القلم الرباني والبشري

ورد في الحديث النبوي الشريف عن القلم الذي خلقه الله تعالى في بداية الخلق، وأمره أن يكتب ما سيكون، وهو ما أشار إليه النبي ﷺ في قوله:

“إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة” (رواه الترمذي).

وهذا القلم ليس المقصود به القلم الذي نستخدمه نحن، بل هو قلم رباني، يعبّر عن علم الله المحيط بكل شيء. أما القلم الذي خطّ به إدريس فهو بداية التدوين البشري، أي الانتقال من الثقافة الشفوية إلى الكتابة.

القلم والكتابة في التقاليد الدينية الأخرى

في التقاليد اليهودية والمسيحية، يطلق على إدريس اسم “أخنوخ” (Enoch)، وقد ورد في التوراة أنه كان رجلاً بارًا، وأن الله رفعه إليه. وتُنسَب إليه بعض الكتب المنحولة مثل “سفر أخنوخ”، التي تحتوي على أفكار غنوصية ومواعظ أخلاقية وكتابات عن الملائكة.

أما في الفكر الفلسفي، فقد اعتُبر اختراع الكتابة من أكبر القفزات الحضارية، حتى أن أفلاطون كان يرى أن الكتابة رغم عظمتها قد تُضعف الذاكرة، لكنها في ذات الوقت ضرورية لحفظ المعارف.

مقارنة بين القلم في الحضارات المختلفة

تأثير التدوين في تطور العلوم

لولا التدوين، لما تمكّنت العلوم من التراكم والتطور. فالكتابة تسمح بحفظ المعارف وتطويرها، وتتيح للعلماء الرجوع إلى أعمال من سبقوهم، والبناء عليها. ومن هنا، فإن الفضل الذي يعود لإدريس عليه السلام – بكونه أول من خط بالقلم – لا يقتصر على اختراع أداة فحسب، بل على إدخال البشرية إلى مرحلة جديدة من الإدراك والتفكير المنظم.

الخاتمة

كان إدريس عليه السلام نقطة فاصلة في تاريخ الإنسانية؛ بنبوته وعلمه وصناعته، وبكونه أول من خط بالقلم. إن هذا العمل الذي يبدو بسيطًا في ظاهره، هو في حقيقته ثورة معرفية غيرت مجرى التاريخ البشري، ومهّدت الطريق لظهور الحضارات والعلوم والفنون. إن الكتابة بالقلم ليست مجرد تسجيل، بل هي فعل وجودي يخلّد الفكر، ويُعيد تشكيل الزمان، ويصوغ الوعي الإنساني في أرقى تجلياته.

المراجع:

1. ابن كثير، البداية والنهاية، دار الفكر.

2. السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، دار الكتب العلمية.