أول من أدخل عبادة الأصنام

أول من أدخل عبادة الأصنام

تُعدّ عبادة الأصنام من أبرز الظواهر الدينية التي ميّزت عصور ما قبل الرسالات السماوية التوحيدية، وكانت هذه الظاهرة انعكاسًا لانحراف البشرية عن الفطرة التي فُطر الناس عليها. لقد ورد ذكر عبادة الأصنام في مواضع متعددة في القرآن الكريم والسنة النبوية، وتناولت كتب التاريخ والتفسير تفاصيل نشوء هذه العبادة في المجتمعات القديمة، وبيّنت كيف تطوّر مفهوم التقديس والتحنيط والتماثيل إلى عبادة شركية قائمة بذاتها.

إن البحث في أول من أدخل عبادة الأصنام في تاريخ البشرية يقودنا إلى شخصية بارزة ذُكرت في التراث الإسلامي، وهو رجل يُدعى عمرو بن لحي الخزاعي، والذي يُنسب إليه إدخال الأصنام إلى جزيرة العرب. ولكن للظاهرة جذور أعمق وأقدم تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، وسنستعرض في هذا المقال تحليلًا شاملًا لهذه الظاهرة من الجذور الأولى لها، مرورًا بدور عمرو بن لحي، وصولًا إلى تحليل أسباب انتشارها في المجتمعات البشرية.

عبادة الأصنام في السياق التاريخي القديم

قبل التطرق إلى شخصية عمرو بن لحي، من المهم تتبع الظاهرة في السياق التاريخي الأوسع. منذ عصور ما قبل الكتابة، ظهرت العديد من التماثيل والرموز التي شكّلت مظاهر أولية للعبادة الوثنية. وقد كشفت التنقيبات الأثرية في مواقع متعددة مثل بلاد الرافدين ووادي النيل ووادي السند عن تماثيل صغيرة كانت تُستخدم في الطقوس الروحية، مما يدل على أن الإنسان القديم كان يبحث عن رموز تمثّل القوى الخارقة أو تجسّد الصفات الإلهية التي يعجز عن تصورها بشكل مجرد.

في الحضارات السومرية والبابلية والمصرية القديمة، تطوّرت عبادة الأصنام إلى أنظمة دينية كاملة تضم مجاميع من الآلهة والطقوس والمعتقدات، مثل الإله مردوخ في بابل، والإله رع في مصر، وغيرها من الآلهة التي نُحتت لها التماثيل وزُينت لها الهياكل والمعابد.

الانحراف عن التوحيد: من عبادة الله إلى تقديس الرموز

يُجمع علماء الدين والتاريخ الإسلامي على أن البشرية بدأت بدين التوحيد، وأن أول البشر، آدم عليه السلام، كان موحدًا لله عز وجل، وتبعه أبناؤه على هذا النهج. لكن مع تعاقب الأجيال، حدث انحراف في العقيدة؛ فقد بدأ الناس بتقديس الصالحين من البشر، ونحت تماثيل تمثلهم تخليدًا لذكراهم، ومن هؤلاء الرجال الذين عُبدوا بعد موتهم كما ورد في القرآن الكريم في سورة نوح: “وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا” [نوح: 23].

هذه الأسماء تعود لأناس صالحين في قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن ينحتوا لهم تماثيل تذكّرهم بهم وتحثهم على الطاعة، ومع مرور الوقت تحول هذا التذكير إلى عبادة صريحة، وهكذا بدأت أولى صور الشرك.

عمرو بن لحي الخزاعي: أول من أدخل عبادة الأصنام إلى العرب

تُجمع المصادر الإسلامية على أن عمرو بن لحي الخزاعي، سيد قبيلة خزاعة وسادن الكعبة في عصره، كان أول من أدخل عبادة الأصنام إلى الجزيرة العربية، وقد نقلها من الشام إلى مكة، وأمر الناس بعبادتها. جاء في الحديث النبوي الشريف ما يؤكد ذلك، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “رأيت عمرو بن لحي يجر أمعاءه في النار، كان أول من سيب السوائب” رواه البخاري.

وكان عمرو بن لحي من الشخصيات ذات المكانة الدينية والاجتماعية، وكان يلقى احترامًا كبيرًا في قومه، لذلك حين أتى بالأصنام وأمر بتقديسها وعبادتها، قبل الناس ذلك دون اعتراض، وتناقلوا فعله جيلاً بعد جيل حتى عمّت الوثنية في سائر أرجاء جزيرة العرب.

مصدر الأصنام وانتشارها

تذكر كتب السيرة أن عمرو بن لحي سافر إلى بلاد الشام، وهناك وجد قومًا يعبدون الأصنام، فأعجبته طريقتهم، وظن أنهم على صواب، فسألهم أن يعطوه بعضًا من أصنامهم فوهبوه صنمًا يُدعى هُبل، وكان من أعظم أصنام قريش، فنصبه في الكعبة، ومن هناك بدأت عبادة الأصنام تنتشر في جزيرة العرب.

وقد توزعت الأصنام على القبائل العربية، ومن أبرزها:

طبيعة الأصنام ووظائفها

لم تكن الأصنام مجرد أحجار، بل كان لها رمزية دينية لدى العرب، إذ نُسب لكل صنم وظيفة أو صفة إلهية. فكان بعضهم يعبد صنمًا معينًا لجلب النصر، وآخرون للخصب، وآخرون للحماية من الأعداء. وكانوا يتقرّبون إليها بالذبائح والدعاء والنذر، وكان لكل قبيلة صنم خاص بها تحمله معها في السفر وتضعه في موضع الشرف عند العودة.

وقد كانت الكعبة تحتوي على أكثر من 360 صنمًا وقت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، تم تكسيرها جميعًا بعد فتح مكة، حيث أعاد الإسلام تصحيح العقيدة وأعاد البشرية إلى عبادة الله الواحد الأحد.

الأسباب النفسية والاجتماعية لعبادة الأصنام

لفهم انتشار عبادة الأصنام، يجب النظر في الدوافع النفسية والاجتماعية وراء الظاهرة، وهي تشمل:

• الحاجة إلى رموز حسية: حيث يميل الإنسان إلى تجسيد ما يقدسه في صورة مادية يسهل تخيلها والتعامل معها.

• الجهل والتقليد: فقد اتبعت الأجيال ما وجدت عليه الآباء دون بحث أو تمحيص.

• السيطرة الدينية والاجتماعية: استغلت بعض الطبقات الكهنوتية تقديس الأصنام لتحقيق السيطرة على الناس وتوجيههم باسم الدين.

• الشيطان وأعوانه: إذ لعب الشيطان دورًا محوريًا في إغواء البشر وتحريف الدين الحق، كما في قصة قوم نوح.

عبادة الأصنام في الحضارات العالمية الأخرى

لا يمكن حصر عبادة الأصنام في جزيرة العرب، فقد وُجدت هذه العبادة في جميع الحضارات الكبرى:

• الهندوسية: حيث تُعبد تماثيل تمثل آلهة متعددة مثل فيشنو وشيفا.

• الإغريق والرومان: حيث كانت آلهتهم على صورة بشر، ولكل إله اختصاص (كإله الحرب، إله الحب، إلخ).

• المايا والأزتك: في أمريكا الوسطى، حيث كانت الأصنام تستخدم في الطقوس الدموية والتقرب للآلهة.

وهذا يشير إلى أن الشرك ظاهرة عالمية، ويُعد انحرافًا فطريًا عن التوحيد الخالص الذي جاءت به الأنبياء جميعًا.

موقف الإسلام من عبادة الأصنام

جاء الإسلام ليعيد التوحيد ويطهر الأرض من الشرك، وكانت أولى دعوات النبي محمد صلى الله عليه وسلم هي “قولوا لا إله إلا الله تُفلحوا”. وقد ظل يدعو قومه لتوحيد الله وترك عبادة الأصنام، حتى تعرّض للأذى والتكذيب.

وكان فتح مكة تتويجًا لهذه الدعوة، حيث دخل النبي الكعبة وكسر الأصنام وهو يردد قوله تعالى: “وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا” [الإسراء: 81].

الخلاصة

إن أول من أدخل عبادة الأصنام إلى العرب كان عمرو بن لحي الخزاعي، ولكن جذور هذه العبادة أقدم من ذلك بكثير، وتعود إلى انحراف الأمم السابقة عن الفطرة السليمة. وقد لعبت الأصنام دورًا كبيرًا في تحريف العقائد، واستُخدمت كأدوات للسيطرة الدينية والاجتماعية، وكانت سببًا في ضياع التوحيد من نفوس الناس. وجاء الإسلام ليعيد الإنسانية إلى الأصل الذي فُطرت عليه، وهو عبادة الله وحده لا شريك له.

المصادر

1. ابن كثير، البداية والنهاية.

2. صحيح البخاري، كتاب المناقب.