أول شيء خلقه الله

يُعد سؤال “ما هو أول شيء خلقه الله؟” من أبرز الأسئلة التي شغلت العلماء والباحثين في مجال العقيدة الإسلامية والفلسفة الدينية عبر العصور. هذا الموضوع يتناول جوهر الوجود وبداية الكون من منظور إيماني، ويجمع بين النصوص الشرعية، والتفسير العلمي، والمنطق العقلي. سنغوص في هذا المقال في دراسة مفصلة وموسعة عن أول ما خلقه الله تعالى، معتمدين على الأدلة القرآنية والحديثية، بالإضافة إلى آراء العلماء في تفسير ذلك، وسنستعرض كيف يتلاقى هذا المفهوم مع الفهم العلمي للكون.

تعريف الخلق وأهميته في العقيدة الإسلامية

الخلق في اللغة يعني الإيجاد والتكوين، أما في الاصطلاح الديني فهو الإحداث من العدم، حيث يخلق الله تعالى كل شيء في الوجود من غير سابق مادة. الإيمان بأن الله هو الخالق الأول هو من أركان العقيدة الإسلامية الأساسية، وقد أكد القرآن الكريم على هذا المعنى في آيات كثيرة منها قوله تعالى:

“اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ” [الزمر: 62].

ففهم أول ما خلقه الله هو فهم لبداية خلق الكون وبداية وجود المخلوقات، وهو أمر مهم لأنه يؤثر في فهم العلاقة بين الخالق والمخلوق، ويوضح قدرة الله المطلقة على إحداث الكون من العدم.

الأدلة من القرآن الكريم

وردت آيات قرآنية كثيرة تشير إلى بداية الخلق، ومنها:

• قوله تعالى:
  
  “الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ” [الملك: 2].
  
  حيث يذكر الله أنه خلق الموت والحياة، في إشارة إلى وجود البداية التي أوجدها الله.

• قوله تعالى:
  
  “فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ۝ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ۝ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا” [النبأ: 24-27].
  
  هذه الآيات تشير إلى مراحل خلق الحياة والكون.

لكن النصوص التي تحدد بالضبط أول شيء خلقه الله وردت في الحديث النبوي الشريف، لذا يجب العودة إليها.

الأدلة من السنة النبوية

ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تتحدث عن بداية الخلق، منها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال:

“قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب القدر كله حتى تقوم الساعة.”

(رواه الترمذي وأبو داود والنسائي).

هذا الحديث يشير بوضوح إلى أن أول ما خلقه الله هو القلم. وقد استشهد به كثير من العلماء ليؤكد أن البداية كانت بخلق القلم الذي كتب به الله القدر والمقدورات، أي كل ما يحدث في الكون إلى يوم القيامة.

معنى القلم في العقيدة الإسلامية

القلم هنا ليس بمعنى القلم المستخدم في الكتابة العادية فقط، بل هو رمز للإرادة الإلهية في تسجيل كل الأحداث، وهو وسيلة لكتابة علم الله الأزلي. فخلق القلم قبل خلق السماوات والأرض أو أي مخلوق آخر يعكس أهمية العلم والكتابة الإلهية في تنظيم الكون.

يرى بعض العلماء أن القلم يحمل دلالة على القدر المحتوم الذي كتبه الله بقدرته وعلمه الشامل، وأن بداية الخلق هي بداية علم الله بالأحداث التي ستقع في الوجود.

آراء العلماء في تفسير أول خلق الله

تنوعت آراء العلماء المسلمين في تفسير الحديث وفي استيعاب معنى أول شيء خلقه الله:

• الإمام القرطبي في تفسيره ذكر أن القلم أول ما خلق الله، وأن خلق القلم هو بداية علم الله الأزلي وتدوينه لكل ما سيكون في الكون.

• الإمام النووي شرح أن القلم خلق ليكتب القدر، وأن هذا يدل على أن الكون محكوم بنظام وقضاء الله المسبق.

• ابن تيمية قال إن خلق القلم دلالة على أن بداية الكون كانت بقضاء الله المكتوب، وهذا يعكس حكمة الله المطلقة.

وهناك بعض التفسيرات التي تشير إلى أن أول خلق الله قد يشمل النور، أو الروح، أو الماء، إلا أن غالبية العلماء يميلون إلى القول بأن القلم هو أول ما خلقه الله بناءً على الحديث النبوي.

النظرة الفلسفية والكونية

من المنظور الفلسفي، فإن بداية الوجود أو الخلق تعني بداية الزمن والمادة والطاقة. يقول الفلاسفة المسلمون إن الله تعالى خارج الزمن، ولذلك خلق الزمن نفسه. فقبل الخلق، لم يكن هناك زمان أو مكان.

وفي سياق الحديث عن أول شيء خلقه الله، يمكن أن يُنظر إلى القلم كرمز للنظام والقانون الذي سيحكم الكون، فبدون وجود قانون أو كتابة لا يمكن تنظيم الكون. هذا يتوافق مع النظريات الحديثة التي تؤكد أن الكون مبني على قوانين فيزيائية ثابتة.

العلاقة بين خلق القلم والكون المادي

خلق القلم لا يعني بالضرورة بداية خلق الكون المادي، بل بداية الخلق بصورة عامة التي تشمل خلق القدر والمكتوبات. وبعد ذلك بدأ الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما.

وهذا يعكس ترتيبًا إلهيًا حكيمًا، حيث يتم أولاً تحديد وتنظيم ما سيحدث في الكون قبل بدء خلق المادة والزمان.

مقارنة مع آراء بعض الديانات الأخرى

في بعض الديانات والفلسفات الأخرى، توجد مفاهيم مشابهة لفكرة البداية، حيث تبدأ بخلق فكرة أو كلمة أو قانون، كالمفهوم الهندوسي عن “اللوغوس” (الكلمة أو العقل الكوني)، أو في المسيحية التي تبدأ بـ”الكلمة” (اللوغوس) في الإنجيل.

وهذا يبرز أهمية الفكرة الإلهية الأولى التي تسبق كل شيء مادي، حيث تُعتبر الكلمة أو القلم رمزًا للحكمة والتنظيم.

جدول يوضح مراحل الخلق وفقًا للنصوص الإسلامية:

أهمية معرفة أول شيء خلقه الله

معرفة أول شيء خلقه الله تعمق الإيمان وتزيد من إدراك الإنسان لعظمة الخالق وقدرته وعلمه. فهي تذكر أن كل شيء مقدر ومكتوب عند الله، وأن لهذا الكون نظامًا دقيقًا، وأن كل ما يحدث في الحياة من أمور هي تحت علم الله وقدره.

كما تساعد هذه المعرفة على فهم العلاقة بين العلم والدين، إذ أن خلق القلم كمبدأ للكتابة والقدرة على تدوين كل شيء يعكس النظام والدقة التي يدرسها العلم اليوم في الكون.

خلاصة

أجمع العلماء المسلمين على أن أول شيء خلقه الله تعالى هو القلم، وهو ما دل عليه الحديث النبوي الشريف، وأن هذا القلم كتب به الله القدر والمقدورات منذ الأزل. هذا الأمر يعكس حكمة الله المطلقة في خلق نظام محكم للكون قبل خلق المادة والزمان.

فخلق القلم هو البداية التي بها بدأ الله تدبير الأمور كلها، فهو رمز للعلم والتقدير الإلهي، وهذا يتفق مع الفهم العقلي والنظري للخلق الذي يؤكد على أن كل شيء في الكون مرتبط بنظام وقانون سابق على المادة نفسها.

يبقى هذا الموضوع من أسرار الغيب التي أطلعنا الله عليها ليزداد الإيمان، وليعرف الإنسان قيمة النظام الإلهي الذي ينظم الحياة والمصير.