أول من دار حول الأرض: رحلة استكشافية غيرت فهم البشرية للعالم

إن فكرة دوران الإنسان حول الأرض لم تكن مجرد حلم أو خيال، بل هي علامة فارقة في تاريخ الحضارة الإنسانية، حيث تبيّن من خلالها أن كوكبنا ليس مركز الكون، بل كرة تدور في الفضاء، وأصبح من الممكن قياس العالم وامتداداته بشكل دقيق. ولتحديد أول من دار حول الأرض، لا بد من التعمق في رحلات الاستكشاف الكبرى التي بدأت في عصر النهضة، تلك الحقبة التي أعادت تشكيل الفكر الجغرافي وفتحت آفاقًا جديدة للبشرية.

السياق التاريخي لاكتشاف كروية الأرض ودورانها

قبل عصر الاستكشافات، كانت معظم الحضارات تؤمن بنموذج الأرض المسطحة أو الأرض المركزية في الكون، وكان الاعتقاد السائد أن العالم محصور في حدود معروفة وأن الأرض ثابتة لا تتحرك. هذه النظرة كانت قائمة على الموروثات الدينية والفلسفية التي تعود إلى العصور القديمة.

لكن علماء وفلاسفة مثل أرسطو، بطليموس، وكلوديوس بطليموس، وكذلك علماء المسلمين مثل الإدريسي والبيروني، ساهموا في تطوير فكرة كروية الأرض. هذه الفكرة لم تُطبق ميدانيًا إلا بعد تقدم تقنيات الملاحة وبزوغ روح المغامرة في أوروبا خلال القرن الخامس عشر والسادس عشر، حيث بدأت رحلات بحرية ضخمة هدفها اكتشاف طرق جديدة للتجارة والمناطق الغنية بالثروات.

رحلة الفرد نونيز دي غوايمير (Fernão de Magalhães) – الرحلة الأولى التي دارت حول الأرض

يرجع الفضل في أول رحلة ناجحة دارت حول الأرض إلى المستكشف البرتغالي فرديناند ماجلان (Fernão de Magalhães) أو كما يُعرف في إسبانيا بـ “ماجلان”. ولدت فكرة الدوران حول الأرض بفضل محاولته الجريئة في البحث عن طريق غربي إلى جزر التوابل (جزر الملوخية في إندونيسيا حالياً) عبر مضيق جديد في الجنوب الغربي لأمريكا الجنوبية.

بدأت رحلة ماجلان عام 1519، عندما انطلقت أسطوله من إشبيلية بإسبانيا، مكونًا من خمس سفن وعدد من البحارة، بهدف الوصول إلى جزر التوابل الشهيرة عبر طريق غربي غير معروف. الرحلة لم تكن مجرد رحلة استكشافية بل كانت مغامرة محفوفة بالمخاطر السياسية والبحرية والجغرافية.

مسار الرحلة ومراحلها

• الخروج من إشبيلية: انطلقت السفن عام سبتمبر 1519، متجهة عبر المحيط الأطلسي نحو السواحل الغربية لأفريقيا.

• عبور المحيط الأطلسي: عبر الأسطول المحيط الأطلسي إلى الساحل الشرقي لأمريكا الجنوبية، حيث وصل إلى خليج سانتياغو في البرازيل.

• استكشاف الساحل الجنوبي لأمريكا: اتجه ماجلان جنوبًا بمحاذاة الساحل الجنوبي القاسي، بحثًا عن ممر يربط الأطلسي بالمحيط الهادئ.

• مضيق ماجلان: في أكتوبر 1520، اكتشف مضيقًا طبيعيًا ضيقًا عبر جنوب أمريكا الجنوبية، والذي أصبح يعرف فيما بعد بمضيق ماجلان، وهو الطريق البحري الذي سمح بالعبور من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ.

• عبور المحيط الهادئ: بعد المرور بالمضيق، دخل الأسطول المحيط الهادئ، في رحلة استغرقت أكثر من ثلاثة أشهر، كانت الأصعب على الإطلاق بسبب نقص الإمدادات والمخاطر المناخية.

• الوصول إلى جزر التوابل: وصل الأسطول في مارس 1521 إلى جزر المولوك (جزر التوابل)، مركز التجارة العالمية في ذلك الوقت.

• العودة إلى إسبانيا: بعد وفاة ماجلان في معارك محلية في الفلبين عام 1521، أكمل قائد السفينة فينسنتو إيزا رحلتها عائدًا إلى إسبانيا، حيث وصل عام 1522، متممًا أول دورة كاملة حول الأرض.

نتائج الرحلة وأثرها

هذه الرحلة التي استغرقت حوالي ثلاث سنوات كانت أول دليل عملي وميداني على كروية الأرض، حيث جاب البحارة العالم بأكمله وعادوا إلى نقطة انطلاقهم من جهة مختلفة، الأمر الذي أدى إلى إعادة صياغة الخرائط البحرية، وتأكيد فكرة الأرض الكروية، وتغيير النظرة الجغرافية للعالم.

بالإضافة إلى ذلك، فتحت الرحلة آفاقًا جديدة للتجارة العالمية، خاصة في تجارة التوابل، كما ساهمت في بدء عصر الاستعمار الأوروبي، والذي أثر بشكل عميق على التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي للعالم بأسره.

الرحلة في إطار التحديات والمخاطر

كانت رحلة ماجلان محفوفة بالمخاطر والشدائد التي كادت أن تفشل المشروع برمته، بدءًا من التمردات على السفن، مرورًا بالعواصف العنيفة، ونقص الطعام والمياه، وصولًا إلى الصراعات مع السكان الأصليين في مناطق الرحلة المختلفة.

كما أن ماجلان نفسه لم ير الرحلة تنتهي، إذ قتل في معركة في الفلبين، لكنه بقي رمزًا للشجاعة والإصرار على كشف غموض العالم.

الرحلات الأخرى التي أكدت دوران الأرض

بعد رحلة ماجلان، شهد العالم العديد من الرحلات التي أكدت بشكل مستقل فكرة دوران الأرض حول نفسها، وكذلك فكرة أنها تدور حول الشمس، في وقت بدأت فيه علوم الفلك والفيزياء تتقدم، مع أعمال العلماء مثل كوبرنيكوس، جاليليو، ونيوتن.

كانت هذه الرحلات مكملة لفكرة كروية الأرض وتحديد أبعادها بدقة أكبر، مما مهد الطريق لاكتشافات جغرافية وأطلسية أوسع وأعمق.

أهمية الدوران حول الأرض من الناحية العلمية والجغرافية

تغيرت المعرفة البشرية بشكل جذري بعد إثبات دوران الأرض حول نفسها، إذ أدت هذه الحقيقة إلى تطوير علوم الفلك، الجغرافيا، الملاحة، والفيزياء. وأصبح بالإمكان حساب الوقت بدقة أكبر من خلال تحديد خطوط الطول والعرض، مما ساعد البحارة على التنقل بثقة أكبر.

كما أن هذا الاكتشاف ساهم في فهم أفضل للمناخ والطقس، حيث تم تفسير ظواهر طبيعية كالفصول الأربعة، الليل والنهار، والتغيرات المناخية الدورية.

جدول مقارنة بين الرحلات التاريخية الأولى حول الأرض

خاتمة الموضوع

تاريخ أول من دار حول الأرض يمثل نقطة تحول حاسمة في تاريخ البشرية، حيث أزال الغموض عن شكل كوكبنا وموقعه في الكون، وفتح الباب أمام عصر جديد من الاكتشافات العلمية والجغرافية. رحلة ماجلان تظل علامة مضيئة في سجل الاستكشافات البحرية، ورسالة واضحة عن قدرة الإنسان على تحدي المجهول وتحقيق المستحيل عبر التصميم والإصرار والمعرفة. هذا الإنجاز التاريخي لم يكن مجرد إنجاز جغرافي بل ثورة في العقل البشري فتحت آفاقًا غير محدودة من المعرفة والتقدم.

المصادر والمراجع

• “رحلات ماجلان ودوران الأرض”، مجلة التاريخ والجغرافيا، 2018.

• William H. Prescott, The Conquest of Peru, 1847.

• National Geographic, Magellan’s Voyage Around the World, 2020.