المشي أثناء النوم: علاقة محتملة بخلل في الجينات الوراثية
يعتبر المشي أثناء النوم أحد الظواهر الغريبة التي تؤثر على بعض الأشخاص أثناء نومهم، وهي حالة طبية تعرف علمياً بـ “السير نومياً” أو “الـ somnambulism”. حيث ينهض الشخص من سريره، يتحرك ويقوم بأنشطة مختلفة رغم أنه لا يكون في وعيه الكامل. تُعتبر هذه الظاهرة أكثر شيوعًا لدى الأطفال، لكن بعض البالغين يمكن أن يعانوا منها أيضًا. يعكف الباحثون في السنوات الأخيرة على دراسة هذه الظاهرة من منظور علمي أعمق، محاولين فهم الأسباب التي تقف وراءها. من بين التفسيرات الحديثة التي جذبت اهتمام المجتمع العلمي هو الدور المحتمل للـ جينات الوراثية في تسبّب هذه الحالة.
ما هو المشي أثناء النوم؟
المشي أثناء النوم هو حالة يكون فيها الشخص في مرحلة من النوم العميق، حيث يقوم بأداء أنشطة جسمانية من دون وعي كامل، مثل المشي حول المنزل، فتح الأبواب، تناول الطعام، أو حتى القيادة. الشخص الذي يعاني من هذه الحالة غالبًا ما لا يذكر أي شيء من هذه الأنشطة عندما يستيقظ في الصباح، وقد لا يتعرض للأذى، ولكن في بعض الحالات النادرة يمكن أن تكون هناك مخاطر، مثل السقوط أو الاصطدام بالأثاث.
هل الجينات تلعب دورًا في المشي أثناء النوم؟
في السنوات الأخيرة، أثار الباحثون فكرة أن المشي أثناء النوم قد يرتبط بخلافات جينية. قد يُعتبر هذا التفسير صادمًا بالنسبة للبعض، ولكن الدراسات العلمية الحديثة تشير إلى وجود أدلة قوية تدعم وجود علاقة بين الجينات الوراثية وبين هذا السلوك الغريب.
الدراسات الوراثية:
العديد من الدراسات التي تناولت الجينات والعوامل الوراثية كشفت أن هناك ميلًا وراثيًا لهذه الحالة. وفقًا لدراسة نشرت في مجلة “Sleep”, أظهرت نتائج الأبحاث أن الأشخاص الذين لديهم أفراد من العائلة يعانون من السير أثناء النوم يكونون أكثر عرضة للإصابة بهذه الظاهرة. في هذه الدراسة، كان من الممكن تحديد بعض الأنماط الوراثية التي قد تكون مرتبطة بهذه الحالة، ما يشير إلى أن المشي أثناء النوم قد يكون له أساس جيني.
أحد الأسباب المحتملة هو أن الجينات قد تؤثر على كيفية تنظيم الدماغ لمرحلة النوم العميق أو ما يُعرف بـ “نوم حركة العين غير السريعة” (NREM). في هذا النوع من النوم، يكون الجسم في حالة استرخاء تام، لكن الدماغ يظل نشطًا في بعض الأحيان، ما يتيح الفرصة لسلوكيات غير متوقعة، مثل المشي أثناء النوم.
دور الجينات في السيطرة على النوم:
إحدى النظريات التي طرحت في هذا السياق هي أن الجينات قد تؤثر على عملية “استقرار النوم” التي تتعلق بانتقال الدماغ بين مراحل النوم المختلفة. هذه النظرية تفترض أن الأشخاص الذين يعانون من اضطراب في آلية الانتقال بين مراحل النوم قد يكونون أكثر عرضة للسير أثناء النوم. بعبارة أخرى، يمكن أن تكون هناك مشكلة في الرسائل العصبية التي تُرسل بين أجزاء الدماغ التي تتحكم في الحركة والوعي، مما يتسبب في حدوث الحركات اللاواعية التي تميز المشي أثناء النوم.
من الممكن أن تؤدي التغيرات الجينية في الجينات المسؤولة عن عملية التحكم في النوم إلى زيادة احتمال حدوث هذه الظاهرة. على سبيل المثال، قد تؤدي الطفرات في جينات معينة إلى تأثيرات في عمليات الكيمياء العصبية التي تدير اليقظة والنوم، مما يعزز من فرصة حدوث النشاطات غير الهادفة أثناء نوم الإنسان.
دراسة الجينات المعينة المرتبطة بالمشي أثناء النوم:
أبحاث أخرى ركزت على فحص الجينات التي تلعب دورًا في التحكم في النوم، مثل جين “DEC2” الذي يُعتقد أنه يلعب دورًا في تنظيم دورات النوم. هناك أيضًا الجين “CLOCK”، الذي يساهم في تنظيم الساعة البيولوجية للجسم، وعُثر عليه في دراسات أخرى كمؤثر في مشكلات النوم مثل الأرق، الذي قد يكون ذا صلة بمشاكل أخرى مثل المشي أثناء النوم. تشير الأدلة إلى أن الأشخاص الذين يعانون من خلل في هذه الجينات قد يكونون أكثر عرضة لظواهر مثل المشي أثناء النوم.
العوامل البيئية التي تؤثر على المشي أثناء النوم:
بالإضافة إلى العوامل الوراثية، فإن العوامل البيئية قد تلعب دورًا في ظهور حالة السير أثناء النوم. الإجهاد، قلة النوم، الكحول، بعض الأدوية والعوامل النفسية قد تؤدي إلى تفاقم هذه الظاهرة لدى الأشخاص الذين لديهم استعداد وراثي. إذا كان الشخص يعاني من خلل جيني يسبب مشاكل في السيطرة على النوم، فإن هذه العوامل البيئية قد تحفز ظهور هذه الحالة بشكل أكبر.
علاوة على ذلك، أظهرت بعض الدراسات أن بعض الأفراد قد يعانون من اضطرابات في النوم مثل انقطاع النفس النومي أو حالة الـ”Restless Leg Syndrome” (متلازمة تململ الساقين)، مما قد يزيد من خطر حدوث المشي أثناء النوم. هذه الحالات مرتبطة أيضًا بتغيرات في دماغ الشخص، وقد تتداخل هذه الاضطرابات مع أنماط النوم الطبيعية.
تشخيص المشي أثناء النوم:
تشخيص المشي أثناء النوم يعتمد عادة على التاريخ الطبي للمريض، وقد يتطلب إجراء اختبارات نوم متخصصة لتحديد إذا كان الشخص يعاني من هذا الاضطراب. في هذه الاختبارات، يتم مراقبة نشاط الدماغ أثناء النوم، وتحليل كيفية انتقاله بين مراحل النوم المختلفة. إذا تم تحديد أن الشخص يعاني من السير أثناء النوم، قد تكون الخطوة التالية هي محاولة تحديد الأسباب الجينية المحتملة من خلال فحص الوراثة العائلية والتاريخ الوراثي.
العلاج والتعامل مع المشي أثناء النوم:
في حالات السير أثناء النوم التي تنجم عن عوامل وراثية، قد تكون العلاجات أكثر تحديًا. ومع ذلك، يمكن التعامل مع المشي أثناء النوم بعدة طرق:
-
العلاج السلوكي:
يشمل العلاج السلوكي تقنيات تعديل السلوك، مثل العلاج السلوكي المعرفي، الذي يساعد الأشخاص على تقليل حدوث هذه الظاهرة من خلال تحسين نمط نومهم. -
الأدوية:
في بعض الحالات، قد يوصي الأطباء باستخدام الأدوية التي تساعد في علاج اضطرابات النوم، مثل المهدئات أو الأدوية التي تؤثر على مستويات السيروتونين في الدماغ. -
التعديل البيئي:
التأكد من بيئة النوم تكون آمنة قدر الإمكان يمكن أن يقلل من المخاطر المرتبطة بالسير أثناء النوم. على سبيل المثال، يمكن تركيب أقفال على النوافذ والأبواب، وإزالة العقبات من الأرضية لتقليل خطر الإصابات. -
استراتيجيات الاسترخاء:
تقنيات الاسترخاء مثل التأمل واليوغا يمكن أن تكون مفيدة في تقليل مستويات التوتر، والتي قد تؤدي بدورها إلى تقليل حدوث هذه الظاهرة.
الخاتمة:
المشي أثناء النوم ليس مجرد ظاهرة غريبة، بل هو اضطراب يمكن أن يكون له جذور وراثية معقدة، إذ تشير الدراسات الحديثة إلى أن الجينات قد تلعب دورًا كبيرًا في نشوء هذا السلوك. مع استمرار الأبحاث في هذا المجال، من المحتمل أن نتمكن من فهم الأسباب الكامنة وراء المشي أثناء النوم بشكل أفضل، وبالتالي تطوير أساليب علاجية أكثر فعالية تساعد الأشخاص الذين يعانون من هذا الاضطراب في تحسين نوعية حياتهم.
