أهمية تعليم الكبار

أهمية تعليم الكبار

تُعد مسألة تعليم الكبار من القضايا الحيوية التي تحتل مكانة استراتيجية في خطط التنمية المستدامة، حيث لا يقتصر التعليم على فئة الأطفال والمراهقين في مراحلهم المدرسية فحسب، بل يمتد ليشمل الكبار ممن لم يحظوا بفرص التعليم النظامي في صغرهم أو ممن يحتاجون إلى اكتساب معارف ومهارات جديدة تتماشى مع مستجدات الحياة والتطورات التكنولوجية المتسارعة. إن تعليم الكبار لا يمثل فقط استجابة لحق أساسي من حقوق الإنسان، بل يُعتبر أداة فعّالة لتحسين جودة الحياة، وتعزيز القدرات الإنتاجية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وبناء مجتمعات أكثر استقرارًا وشمولًا.

التعليم مدى الحياة ومفهوم تعليم الكبار

يندرج تعليم الكبار ضمن المفهوم الأوسع لما يُعرف بالتعليم مدى الحياة، وهو المفهوم الذي يعكس التحول في الفلسفة التربوية من التعليم المؤسسي المحدود زمنًا ومكانًا إلى التعلم المستمر والمتجدد في جميع مراحل العمر. ويشمل تعليم الكبار كل البرامج التي تستهدف الراشدين ممن تجاوزوا السن التقليدي للالتحاق بالمدرسة، سواء أكان ذلك لمحو الأمية الأبجدية أو الرقمية، أو لاكتساب مهارات مهنية جديدة، أو لاستكمال التعليم الأكاديمي أو المهني، أو لتوسيع المعرفة العامة في مختلف المجالات.

البعد الإنساني والاجتماعي لتعليم الكبار

يشكّل تعليم الكبار مدخلًا إنسانيًا يعزز الكرامة الشخصية، ويمنح الأفراد القدرة على الفهم والتفاعل مع العالم المحيط بهم. فالكبار الذين يفتقرون إلى المهارات الأساسية مثل القراءة والكتابة والحساب، يكونون عرضة للتهميش والعزلة، ويواجهون صعوبات جمّة في الوصول إلى المعلومات، أو ممارسة حقوقهم المدنية والسياسية والاجتماعية. كما يعاني هؤلاء من ضعف في إمكانية الحصول على وظائف لائقة أو تحسين أوضاعهم الاقتصادية.

وتشير الدراسات الاجتماعية إلى أن الأميّة بين الكبار ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمظاهر الفقر، وتردي الأوضاع الصحية، وانخفاض الوعي البيئي والأسري، وتفشي البطالة. ومن هنا، فإن تعليم الكبار يسهم بشكل مباشر في تحسين مؤشرات التنمية البشرية، ويُعد أداة فعالة لتقليص الفجوات بين الفئات الاجتماعية وتحقيق إدماج أكبر للمواطنين في الأنشطة المجتمعية والسياسية والاقتصادية.

الأثر الاقتصادي لتعليم الكبار

من المنظور الاقتصادي، يمثّل تعليم الكبار ركيزة أساسية في دعم سوق العمل، خصوصًا في ظل التحولات السريعة التي يشهدها العالم الرقمي والاقتصاد المعرفي. ففي كثير من الدول، توجد نسبة كبيرة من السكان في سن العمل ممن لم يحصلوا على التعليم الكافي، ما يجعلهم غير مؤهلين للاستجابة لمتطلبات الاقتصاد الحديث الذي يعتمد بشكل متزايد على المهارات التقنية والرقمية.

ويؤدي تمكين هؤلاء الأفراد من التعليم والتدريب المستمر إلى رفع إنتاجيتهم، وتقليل معدلات البطالة، وتحسين دخل الأسر، وتعزيز روح المبادرة وريادة الأعمال. كما يساعد تعليم الكبار على رفع كفاءة القوى العاملة المحلية، ويقلل من الاعتماد على العمالة الأجنبية، ويسهم في تأمين الاكتفاء الوطني من الموارد البشرية المؤهلة.

تعليم الكبار ومحو الأمية

يرتبط تعليم الكبار في كثير من الأحيان بمحو الأمية، وهو المرحلة الأولى والأساسية في تمكين الأفراد من مواكبة العصر. ومع أن برامج محو الأمية تتجاوز الأبعاد التقليدية للقراءة والكتابة، إلا أن الكثير من المجتمعات لا تزال تعاني من نسب مرتفعة من الأمية، خاصة في المناطق الريفية والمهمشة.

وتشير إحصائيات اليونسكو إلى أن أكثر من 750 مليون شخص بالغ حول العالم ما زالوا يفتقرون إلى مهارات القراءة والكتابة، وأن أكثر من ثلثي هؤلاء من النساء، ما يبرز الفجوة النوعية في الوصول إلى التعليم. وتُظهر هذه الأرقام حجم التحدي، ولكنها في الوقت ذاته تعكس الفرصة الكامنة في استثمار الجهود في برامج محو الأمية التي يمكن أن تحدث تحولًا كبيرًا في حياة الأفراد والمجتمعات.

الأثر النفسي والشخصي لتعليم الكبار

يتجاوز أثر تعليم الكبار الأبعاد المادية ليصل إلى التأثيرات النفسية والشخصية العميقة. فالكبار الذين يشاركون في برامج تعليمية يشعرون بقدر أكبر من الثقة بالنفس، والانفتاح على العالم، والرغبة في التغيير الإيجابي. كما يُظهرون مستويات أعلى من التفاعل مع الأسرة والمجتمع، ويميلون إلى تنمية مهارات التفكير النقدي واتخاذ القرارات الصائبة.

وتشير الدراسات النفسية إلى أن التعليم في مراحل متقدمة من العمر يسهم في تحسين الصحة النفسية، وتقليل مشاعر العزلة، والوقاية من الخرف، وتعزيز الشعور بالهوية والانتماء. كما أنّ التعليم ينعكس على العلاقات الاجتماعية، إذ يمنح الأفراد أدوات أفضل للتواصل والتعاون، ويعزز قدرتهم على التربية الإيجابية لأبنائهم، ما يخلق حلقة من التعليم المتصل بين الأجيال.

تحديات تعليم الكبار

رغم الأهمية البالغة لهذا النوع من التعليم، إلا أن تعليم الكبار يواجه العديد من التحديات البنيوية والتنظيمية والثقافية، منها:

1. ضعف التمويل: غالبًا ما يُنظر إلى تعليم الكبار كأولوية ثانوية مقارنة بالتعليم النظامي، ما يؤدي إلى ضعف الاستثمار فيه من قبل الحكومات.

2. الوصمة الاجتماعية: يعاني بعض الكبار من الشعور بالخجل أو الحرج من الالتحاق ببرامج تعليمية في عمر متأخر.

3. ضعف البنية التحتية: خصوصًا في المناطق الريفية والنائية التي تفتقر إلى مراكز تعليمية مخصصة للكبار.

4. قلة المعلمين المتخصصين: تحتاج برامج تعليم الكبار إلى كوادر مؤهلة تمتلك مهارات تربوية خاصة تتناسب مع طبيعة المتعلمين الكبار.

5. ضعف التوعية بأهمية التعليم للكبار: ما يجعل بعض الفئات تنظر إلى التعليم على أنه غير ضروري بعد سن معين.

استراتيجيات تعزيز تعليم الكبار

لمعالجة التحديات السابقة وضمان تطوير تعليم الكبار، ينبغي تبني حزمة من السياسات والاستراتيجيات، من أبرزها:

• دمج تعليم الكبار في خطط التنمية الوطنية، باعتباره جزءًا من التعليم مدى الحياة وليس مجرد استجابة ظرفية.

• إطلاق حملات إعلامية وتوعوية تستهدف تغيير الصورة النمطية عن تعليم الكبار، وتشجيع المشاركة فيه.

• تقديم حوافز مالية واجتماعية للملتحقين ببرامج التعليم مثل منح شهادات معترف بها، أو فرص توظيف، أو امتيازات ضريبية.

• توفير صيغ مرنة للتعلم تشمل التعليم المسائي، التعليم عن بعد، والمنصات الرقمية، لتلبية احتياجات الكبار الذين قد يكونون مرتبطين بأعمال أو التزامات أسرية.

• إشراك المجتمع المدني والمؤسسات غير الحكومية في تنظيم البرامج التعليمية، لتوسيع نطاق التغطية وتعزيز الروابط مع الواقع المحلي.

دور المنظمات الدولية

تلعب المنظمات الدولية دورًا حيويًا في دعم تعليم الكبار، وعلى رأسها منظمة اليونسكو التي أطلقت عدة مبادرات دولية مثل “محو الأمية من أجل تمكين النساء”، و”العقد الدولي لمحو الأمية”، إلى جانب تقارير التنمية والتعليم المستدام التي تضع تعليم الكبار ضمن الأولويات العالمية. كما تدعم هذه المنظمات بناء القدرات الوطنية وتطوير المناهج وتبادل الخبرات بين الدول، وتوفير التمويل الفني والمالي.

جدول مقارنة بين التعليم النظامي وتعليم الكبار

الخلاصة

إن تعليم الكبار ليس ترفًا ولا خيارًا هامشيًا، بل هو ضرورة تنموية ملحة لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وضمان مشاركة كل فرد في بناء مجتمع المعرفة. ويمثل هذا التعليم جسرًا للعبور من التهميش إلى التمكين، ومن الجهل إلى التنوير، ومن العزلة إلى الفاعلية. وبقدر ما تستثمر المجتمعات في تعليم كبارها، بقدر ما تؤسس لنهضة شاملة تستند إلى الإنسان المتعلم الواعي القادر على مواكبة التحولات وبناء المستقبل.

المراجع:

• UNESCO Institute for Lifelong Learning (2022). Global Report on Adult Learning and Education.

• OECD (2019). Skills Matter: Additional Results from the Survey of Adult Skills.