أهل يثرب والأنصار

عنوان المقال: أهل يثرب والأنصار

مقدمة تاريخية حول يثرب

مدينة يثرب هي واحدة من أقدم المدن في الجزيرة العربية، وتقع في منطقة الحجاز شمال مكة المكرمة. وقد عُرفت هذه المدينة قبل الإسلام باسم “يثرب”، وهو اسم ورد في القرآن الكريم في سورة الأحزاب: ﴿وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا﴾. ومع ذلك، فإن هذا الاسم ما لبث أن تغيّر بعد الهجرة النبوية إلى اسم “المدينة” أو “المدينة المنورة”، ليحمل دلالة دينية وحضارية كبرى في التاريخ الإسلامي.

قبل ظهور الإسلام، كانت يثرب موطناً لقبائل عربية رئيسية مثل الأوس والخزرج، إضافة إلى قبائل يهودية مثل بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير. هذه التركيبة السكانية المتعددة جعلت من المدينة مجتمعًا متنوعًا ثقافيًا ودينيًا، يعاني من صراعات داخلية مزمنة، خصوصًا بين الأوس والخزرج، حتى قدوم الإسلام الذي أعاد تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية في المدينة.

أهل يثرب في القرآن والسنة

أطلق على أهل يثرب بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إليهم لقب “الأنصار”، وهو لقب أسبغه عليهم الوحي الكريم ووصفهم به في أكثر من موضع في القرآن، لما أظهروه من دعم ونصرة للمهاجرين من مكة، وللرسول نفسه. يقول الله تعالى في سورة التوبة: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ…﴾، وفي سورة الحشر: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾.

الأنصار هم الذين بايعوا النبي في بيعة العقبة الكبرى، وتعهدوا بحمايته ونصرته والدفاع عنه كما يدافعون عن أهلهم وأنفسهم. وقد حفظ التاريخ الإسلامي أسماء بارزة من هؤلاء الأبطال، مثل سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأُسيد بن حضير، وعبد الله بن رواحة، وغيرهم ممن سطروا أسماءهم في سجلات التضحية والإخلاص لدين الله.

أصول الأوس والخزرج

ينحدر الأوس والخزرج، وهما القبيلتان الأساسيتان في يثرب، من قبيلة الأزد التي هاجرت من اليمن بعد انهيار سد مأرب. استقرت هذه القبائل في يثرب منذ عدة قرون قبل الإسلام، ودخلت في صراعات طويلة الأمد انتهت بمعركة بعاث الدموية، التي أضعفتهم كثيرًا، ومهدت نفسيًا لقبول الدعوة الإسلامية التي جاءت لتوحيدهم تحت راية الدين الجديد.

وقد شهدت يثرب مع ظهور الإسلام تحوّلاً جذريًا، حيث تلاشت العصبيات القبلية تحت راية الأخوة الإسلامية، وتحول الأوس والخزرج من قبائل متصارعة إلى مجتمع متماسك ومؤمن بوحدة الهدف والمصير، فاستحقوا بذلك لقب “الأنصار” من الله عز وجل ومن نبيّه الكريم.

أهم الأعمال التي قام بها الأنصار

1. البيعة والدعم السياسي: كان لأهل يثرب السبق في مبايعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم سرًا ثم جهرًا في بيعة العقبة، مما منح الدعوة الإسلامية قاعدة قوية، وأمّن لها أرضًا تحتضنها بعد معاناة شديدة في مكة.

2. احتضان المهاجرين: لقد تميّز الأنصار بسلوك اجتماعي فريد، حيث استقبلوا المهاجرين من مكة بكل حب وكرم، وقاسموهم منازلهم وأموالهم وأعمالهم، حتى أن بعضهم كان على استعداد لتطليق زوجته ليتزوجها المهاجر. هذا الفعل لم يكن طقسًا شكليًا بل تعبيرًا عن عمق الإيمان وأصالة الخلق.

3. المشاركة في الغزوات: شارك الأنصار في جميع المعارك الكبرى التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم، مثل بدر وأُحد والخندق وتبوك، وقدموا فيها أرواحهم دفاعًا عن الإسلام، ومن أبرزهم سعد بن معاذ الذي هز عرش الرحمن بموته.

4. المساهمة في بناء الدولة الإسلامية: ساهم الأنصار في تأسيس المسجد النبوي الذي لم يكن مجرد مكان للعبادة، بل مركزًا سياسيًا وإداريًا وتعليميًا، وشاركوا في صياغة “الصحيفة” التي تعتبر أول دستور مدني في التاريخ، حيث نظّمت العلاقة بين المسلمين واليهود وسائر سكان المدينة.

مكانة الأنصار في السنة النبوية

أفاضت السنة النبوية في بيان فضل الأنصار وعلو منزلتهم، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار». كما قال في حديث آخر: «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار».

هذا التقدير النبوي يعكس عمق الامتنان الذي كان يحمله الرسول صلى الله عليه وسلم في قلبه لهم، وهو ما تجلّى في مواقف عديدة، مثل موقفه يوم حنين عندما وزّع الغنائم واشتكى بعض الأنصار، فخطب فيهم خطبة مؤثرة ختمها بعبارته الشهيرة: «أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟».

الأنصار في الخلافة الراشدة

بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقف الأنصار موقفًا حاسمًا في سقيفة بني ساعدة، حيث اجتمعوا لتقرير من يتولى شؤون المسلمين، واقترحوا أن يكون منهم أمير ومن المهاجرين أمير. غير أن أبا بكر الصديق، وبحنكته السياسية، أقنعهم بوحدة القيادة، وأن الخلافة في قريش، فبايعوه بعد نقاش، مؤكدين بذلك حرصهم على وحدة الأمة وسلامتها.

أثر الأنصار في الفتوحات الإسلامية

لم يكن دور الأنصار محصورًا في المدينة، بل انتقلوا مع جيوش الفتح إلى الشام والعراق ومصر، وشاركوا في نشر الدعوة الإسلامية وتثبيت أركان الدولة في الأمصار المفتوحة. وقد وُجدت آثار لهم في دمشق والبصرة والفسطاط، حيث أسسوا المدارس والمجالس الفقهية، وكانوا من أوائل النواة التي ساهمت في نشر المذاهب الإسلامية.

الهوية التاريخية لأهل يثرب

تحوّلت يثرب، بفضل الأنصار، من مدينة مضطربة إلى عاصمة دولة الإسلام الأولى، ومرجعية سياسية وروحية للعالم الإسلامي. وأهلها حافظوا على هذا التراث، حتى بعد توسع الدولة وتحول مركزها إلى دمشق ثم بغداد، فقد ظلت المدينة المنورة رمزًا للمحبة والوفاء، وظل الأنصار يُذكرون في المحافل العلمية والكتب التاريخية كأمثلة عليا في التضحية والكرم والإخلاص.

التحول اللغوي والثقافي لاسم يثرب

بعد الإسلام، كره النبي صلى الله عليه وسلم تسمية “يثرب”، وقال عنها: «من قال يثرب فليستغفر الله، إنما هي طيبة، إنما هي طابة»، وهو حديث يدل على البعد الثقافي والديني في تغيير اسم المدينة. وقد تبنّى المسلمون هذا التغيير، فأصبح الاسم الرسمي هو “المدينة” أو “المدينة المنورة”، وشاع ذلك في كل العصور الإسلامية التالية.

جدول يوضح الفروق بين الأسماء التي أطلقت على يثرب:

خلاصة تاريخية ومعرفية

اسم “الأنصار” الذي أطلق على أهل يثرب لم يكن مجرد وصف اجتماعي أو سياسي، بل هو تجسيد لهوية جماعية استثنائية أثبتت إخلاصها وعطاءها في أدق مراحل بناء الأمة الإسلامية. لقد انتقل هؤلاء من حالة قبلية تقليدية إلى وحدة دينية حضارية كان لها أبلغ الأثر في ترسيخ معاني الأخوة والعدالة والنصرة. وسواء في التاريخ النبوي أو العهد الراشدي، أو حتى في مدونات الفكر الإسلامي، ظل اسم الأنصار رمزًا خالدًا للولاء والتضحية والعطاء بلا حدود.

المصادر:

• ابن هشام، السيرة النبوية.

• الطبري، تاريخ الرسل والملوك.