أنواع الغيرة في الإسلام

أنواع الغيرة في الإسلام

الغيرة شعور إنساني فطري جُبِل عليه الإنسان، وهي حالة نفسية تنبع من الحمية والرغبة في حفظ ما يعده الإنسان خاصًا به، سواء تعلق ذلك بأسرته، عرضه، دينه، أو حتى مكانته بين الناس. وفي حين أن الغيرة قد تكون دافعًا محمودًا نحو الخير والدفاع عن القيم، فإنها أيضًا قد تتحول إلى دافع مذموم إذا تجاوزت حدودها الشرعية وتحولت إلى سلوكيات مؤذية أو حسد مدمر.

في المنظور الإسلامي، تُعد الغيرة خلقًا متوازنًا بين الإفراط والتفريط، وهي لا تُذم لذاتها، وإنما يذم منها ما تجاوز حد الاعتدال. وقد وردت في السنة النبوية نصوص كثيرة توضح أن الغيرة جزء من أخلاق المؤمن، ولكنها إذا تحولت إلى ريبة دائمة، أو شك متواصل، أو اعتداء على حقوق الآخرين، فإنها تصبح من الصفات المنهية عنها. في هذا المقال سيتم تفصيل أنواع الغيرة في الإسلام، وتمييز المحمود منها عن المذموم، مع بيان آثارها على الفرد والمجتمع.

أولًا: تعريف الغيرة في اللغة والاصطلاح

في اللغة:

الغيرة مأخوذة من الفعل “غار يغار غيرة”، وهي تعني شدة المحافظة والحرص على الشيء. وتُستخدم للدلالة على شعور بالحمية، والغيرة على العرض، والدين، والحقوق.

في الاصطلاح:

الغيرة في اصطلاح علماء الأخلاق والسلوك تعني: انفعال نفسي ناتج عن حب الشيء والخوف من مشارك أو مزاحم عليه، وقد تكون في إطار مشروع كغيرة الرجل على أهله، أو غير مشروع كغيرة الحاسد من فضل الله على غيره.

ثانيًا: الغيرة المحمودة في الإسلام

1. الغيرة على الدين

وهي من أعلى مراتب الغيرة وأشرفها، إذ تدفع المؤمن إلى الذب عن شرائع الإسلام، والدعوة إلى الله، وإنكار المنكرات، والحرص على أن لا يُنتقص من هيبة الشريعة أو يُستهزأ بها. وقد كان النبي ﷺ يغار إذا انتُهكت حرمات الله، ففي الحديث الصحيح: “كان رسول الله ﷺ أشد الناس غيرة، والله أشد منه غيرة” (رواه البخاري ومسلم).

وتظهر الغيرة على الدين في الدفاع عن العقيدة، والسنة، ورفض البدع والانحرافات، ومواجهة الفساد الأخلاقي في المجتمع.

2. الغيرة على العرض

من أبرز صور الغيرة المحمودة، وهي من الغرائز التي فطر الله عليها الإنسان. ويُمدح الرجل الذي يغار على زوجته وأهله، ويحفظهم من أسباب الفتنة والتبرج والانحراف. وفي الحديث: “إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله” (رواه البخاري ومسلم).

وقد شدد الإسلام في أهمية صيانة الأعراض، واعتبر انتهاكها من الكبائر، وجعل الغيرة على المحارم سبيلاً من سبل النجاة.

3. الغيرة على الأمة

وتتمثل في مشاعر الانتماء والحمية للمسلمين جميعًا، فيفرح المؤمن لعز الإسلام، ويحزن لذل المسلمين، ويغار على حال الأمة إن دب فيها الضعف أو التفرق، فيدفعه ذلك للعمل من أجل نهضتها ووحدتها. وهذه غيرة إيجابية تنعكس على الإصلاح، والتربية، والجهاد في سبيل الله.

4. غيرة الأنبياء والصالحين

ورد عن كثير من الأنبياء والصالحين أنهم كانوا يغارون غيرة شديدة على محارم الله، وعلى الأخلاق، وعلى الطهارة العامة للمجتمع. ومن أمثلة ذلك غيرة نبي الله يوسف عليه السلام، وغيرة النبي محمد ﷺ من اختلاط الرجال بالنساء في غير ضوابط الشريعة.

ثالثًا: الغيرة المذمومة في الإسلام

رغم أن الغيرة غريزة فطرية، إلا أن الإسلام حذر من الغيرة التي تتجاوز الحدود، لأنها قد تتحول إلى أمراض نفسية وسلوكيات ضارة.

1. الغيرة المرضية أو الشك المفرط

ويقصد بها الغيرة التي تتحول إلى ريب دائم، وشك في النوايا، ومراقبة مستمرة للآخرين، وخاصة بين الزوجين. وقد تؤدي هذه الغيرة إلى تدمير الحياة الأسرية، وخلق أجواء من التوتر والخصام المستمر.

وقد نهى النبي ﷺ عن هذا النوع من الغيرة، وسماه بـ “الغيرة المذمومة”، ففي الحديث: “إن من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله؛ فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما التي يبغضها فالغيرة في غير ريبة” (رواه أبو داود).

2. الغيرة من النعم (الحسد)

ويقصد بها أن يغار الإنسان من خير عند غيره، ويتمنى زواله عنه، لا لأنه يحب الخير، بل لأنه لا يطيق رؤية غيره في نعمة. وهذه غيرة مذمومة تدخل في باب الحسد، وهي من كبائر القلوب التي تحرق الحسنات وتفسد العلاقات، كما قال النبي ﷺ: “إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب” (رواه أبو داود).

3. غيرة الرياء أو السمعة

وهي أن يدعي الإنسان الغيرة على الدين أو العرض أو القيم، في حين أن دافعه الحقيقي هو التظاهر، أو تحقيق مصالح شخصية، أو إحراج الآخرين. وهذه الغيرة لا وزن لها عند الله، لأنها ليست نابعة من صدق الإيمان، وإنما من حب الرياء والتفاخر.

رابعًا: ميزان الغيرة في الإسلام

الإسلام وضع للغيرة ميزانًا دقيقًا يضبط سلوك الإنسان، ويمنع إفراطه وتفريطه. فالمؤمن يُطلب منه أن يكون غيورًا في مواضع الغيرة المشروعة، كالدفاع عن دينه وأهله، ولكنه في الوقت ذاته مأمور بأن لا يتجاوز ذلك إلى التجسس، أو الظن السيئ، أو الشك الدائم.

وفي هذا السياق، جاء قول النبي ﷺ: “لا يدخل الجنة ديوث”، والديوث هو الذي لا يغار على أهله. في المقابل، لا يُطلب من المؤمن أن يكون شكاكًا مرضيًّا، فالإسلام دين يربّي على التوازن بين الغيرة المشروعة والسلوك الرشيد.

خامسًا: الفرق بين الغيرة والحمية والغيرة والحسد

الغيرة والحمية:

الحمية هي الغضب والانتصار للنفس أو للجماعة أو للقبيلة، وهي قد تكون إيجابية إذا كانت في سبيل الله، وقد تكون جاهلية كما ورد في الحديث: “دعوها فإنها منتنة”، عن العصبية القبلية. أما الغيرة فغالبًا ما تكون دفاعًا عن القيم والأعراض.

الغيرة والحسد:

الغيرة في أصلها لا تعني تمني زوال النعمة، بل تعني الحماية أو الدفاع، أما الحسد فهو تمني زوال النعمة عن الآخرين، وقد نهى الإسلام عنه وذمه، وورد في القرآن الكريم: ﴿أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله﴾ [النساء: 54].

سادسًا: آثار الغيرة في حياة المسلم

سابعًا: نماذج من غيرة الصحابة والتابعين

عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

كان من أشد الناس غيرة على أهله، وكان يغار غيرة شديدة على النساء، ويحرص على أن لا يُرى من زوجته ما يُفتن به الناس. ومع ذلك، لم يكن شكّاكًا، بل كان عادلًا متزنًا في غيرته.

سعد بن عبادة رضي الله عنه:

قال عنه النبي ﷺ: “أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني”. وكان سعد يغار على زوجته بشدة، والنبي ﷺ أقر غيرته لأنها كانت في موضعها، دون تعدٍ أو شك.

ثامنًا: وسائل تنمية الغيرة المحمودة وتجنب الغيرة المذمومة

1. الرجوع إلى النصوص الشرعية: قراءة الأحاديث والآيات التي تبيّن حدود الغيرة وأحكامها.

2. تعزيز الإيمان والوعي: فكلما قوي الإيمان، ازدادت الغيرة المحمودة وقلت الغيرة المذمومة.

3. ضبط النفس والتروي: يجب على المسلم أن يتروى في مشاعره، وأن لا يتخذ قرارات بناءً على الظنون.

4. حسن الظن: تجنب اتهام الآخرين دون بينة أو دليل.

5. الصدق في النية: أن يكون دافع الغيرة حبًا للخير، لا حبًا للسيطرة أو الرياء.

المصادر والمراجع:

1. ابن القيم الجوزية، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، تحقيق: محمد حامد الفقي.

2. النووي، شرح صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي.